المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    فرصة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    لبنان يغرق في «الحفرة».. والدمار بمليارات الدولارات    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «آثارنا حضارة تدلّ علينا»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    أرصدة مشبوهة !    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    «المرأة السعودية».. كفاءة في العمل ومناصب قيادية عليا    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    «إِلْهِي الكلب بعظمة»!    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    فعل لا رد فعل    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    سفارة السعودية في باكستان: المملكة تدين الهجوم على نقطة تفتيش مشتركة في مدينة "بانو"    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المرور»: الجوال يتصدّر مسببات الحوادث بالمدينة    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    رسالة إنسانية    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مكتبات المثقفين والأدباء إهداء غالٍ.. أو بيع رخيص

تمثل المكتبة الخاصة جزءًا مهمًا وضروريًا في حياة أي مثقف وأديب، أنفقوا في سبيل تكوينها مالًا كثيرًا، وصبروا على جمع محتوياتها واختيار كتبها بصبر ودأب، وربما سافر أحدهم وتكبد المشاق من أجل الحصول على نسخة من كتاب، أو صورة من وثيقة، أو مخطوطة يستعين بها في بحوثه وكتاباته.. والحال كذلك تصبح هذه المكتبة جزءا لا يتجزأ من كيان المبدع والأديب، بل تمثل له الحياة كلها فإذا فقدها انتهت حياته.. لذلك ومع تقدم العمر يزداد قلق المبدع على مكتبه، ويتعاظم عنده الخوف من أن يضيع هذا الكنز أو أن تناله يد الإهمال فتختفي من الوجود كما اختفى صاحبها، وفي ذاكرتهم شواهد على ضياع مكتبة قيمة لأدباء ملأوا الدنيا وشغلوا الناس، فمن يزور الحراج سيجد العديد من الكتب والمؤلفات لأدباء كبار تباع ب»ريال»، وبعضها عليه إهداء خاص، وإذا وسعنا دائرة النظر واستدعينا الشواهد سنجد أن مكتبتا الدكتور طه حسين والشاعر صلاح عبدالصبور بيعتا لباعة الكتب على الأرصفة فضاعت عيون التراث العربي دون استفادة حقيقية سواء للباحثين أو الورثة، كما كان الإهمال سببا في ضياع مكتبات أخرى مثل مكتبة المفكر الكبير د. لويس عوض التي أتلفتها المياه الجوفية، ومكتبة المترجم والأديب الفلسطيني الراحل أحمد عمر شاهين التي التهمتها النيران، كذلك عمد ورثة الشاعر السكندري صديق شيبوب إلى التخلص من مكتبته بحرقها بعد فشل محاولات إقناع المسؤولين بأخذ المكتبة لضمها للمكتبات العامة، وبيعت مكتبة الناقد الأدبي عبدالرحمن أبوعوف رئيس تحرير مجلة الرواية قضايا وآفاق في أكشاك سور الأزبكية في معرض القاهرة للكتاب في شهر يناير 2012.. كل هذه الشواهد تفتح باب التوقع لمآل المكتبات الخاصة، وكيف السبيل إلى إنقاذها من «البيع الاضطراري» أو «الإهمال الأسري»، أو من أي عوارض أخرى تنتهى بها إلى مكان غير الذي يجب أن تكون فيه.. بعض إفادات الأدباء والمثقفين حول هذه القضية في سياق هذا التحقيق..
بداية يقول الدكتور صالح زيّاد: هناك علاقة حميمية بين المكتبة الشخصية وبين صاحبها، تشبه العلاقة بأشيائه الخاصة. وهي علاقة تكوُّن وانبناء تدريجي فلا أحد يمتلك مكتبته الشخصية في ضربة واحدة أو في يوم وليلة بل هي حصيلة جمعه لها كتابًا كتابًا، وهو في بنائه لمكتبته وجمعه لمحتوياتها يتدرج في المعرفة والاكتشاف للمعلومات والأفكار ووجهات النظر، ومن ثم يؤلف كل كتاب في المكتبة ذكرى وتاريخ. وهذا هو ما يجعل لحظة الفراق بين الشخص ومكتبته لحظة صعبة، ولكنها أشد صعوبة حين يعجز عن الاحتفاظ بها، وحين يبدأ ضياعها وتلفها في الحدوث أمام عينيه. ويتابع زياد حديثه مضيفًا: أفضل وسيلة للحفاظ على المكتبة وعلى ذكر صاحبها هو إهداؤها إلى إحدى المكتبات العامة، فهي في هذه الحالة تخرج من حيز الخصوص إلى العموم، وتتصل وظيفة صاحبها في الحفاوة بالكتب والتثمين للمعرفة والإشعاع بها عبر إتاحتها للأجيال. وأعتقد أن من واجب المكتبات العامة أن تضع المكتبات الخاصة المهداة إليها في ركن خاص بها، وإلى جانبه لوحة خاصة تحمل سيرة صاحب المكتبة وصورته، وشكر الإدارة التي تتبعها المكتبة له، ولا تفرِّق كتبها بين محتوياتها العامة. وقد لاحظت خلاف ذلك في عديد من المكتبات ومنها مكتبة جامعة الملك سعود -على سبيل المثال- وهي من أضخم المكتبات في المملكة، فقد كنت أبحث عن بعض الكتب على الرفوف ووجدت كتبًا من مكتبات خاصة تم إهداؤها للمكتبة، وعليها أسماء أصحابها، وأحيانًا تعليقاتهم في بعض الصفحات. ويختم زياد بقوله: أعتقد أن وزارة الثقافة يمكن أن تنهض بمهمة جليلة في الحفاظ على المكتبات الخاصة، بأن تكون هناك إدارة في الوزارة لمتابعة شؤونها، فتتقبل الإهداءات وتكرِّم أصحابها، وتقوم بشراء ما يعرض منها للبيع، أو تنسق مع الجهات التي تريد الشراء. ومن المهم هنا أن نلتفت إلى ما تعنيه المكتبة الخاصة بوصفها وحدة متشكلة وليس مجموعة كتب تم جمعها ولا أهمية لبقائها مجموعة، خصوصًا إذا كانت المكتبة لعَلَم من أعلام الفكر والمعرفة وله إسهامه العلمي أو الإبداعي.
مشهد عبثي
ويشارك الدكتور زيد بن علي الفضيل قائلًا: أتفق معكم بداية بأنه وفي ظل انتهاء التحقيب العلمي والاجتماعي، وتماهي الأسر بعضها ببعض في الوقت المعاصر، جراء ما نعيشه من انفتاح وسهولة معرفة، بمعنى انتهاء عهد احتكار العلم في أسر معينة، كما كان الوضع عليه سابقًا من وجود أسر علمية خاصة تتوارث العلم، وأسر تجارية وصناعية وحرفية وزراعية وبحرية وهكذا، يتوارث أبناؤها مادة كل مهنة وحرفة منها أبا عن جد، أتفق بداية بأن هذه الحالة من التماهي في الاجتماع العلمي قد صنعت إشكالًا معرفيًا فلسفيًا أولًا، وإشكالًا في النتيجة ثانيًا. حيث إن أدى ذلك إلى تغير مسار كثير من المناشط الحياتية بصورة غير طبيعية. ودعني أكون معك شفافًا أكثر وأقول إن أزمة التعامل مع إرث المكتبات الخاصة للعديد من المثقفين اليوم هو نتيجة حتمية لهذا التماهي غير المقنن وغير المدروس، بمعنى وحتى لا أفهم خطأ، أنه كان يجدر بكل المثقفين المعاصرين الذين لا يملكون امتدادًا علميًا تاريخيًا أن يستوعبوا على النطاق الأسري حالة البعد المعرفي بمفهومه الفلسفي، التي تكونت عبر قرون في عديد من الأسر العلمية، كما كان يجدر بأولئك المثقفين الذين ينتمون إلى أسر علمية عريقة ألا يخسروا إرثهم المعرفي في صورته المعنوية الفلسفية، مع حالة التماهي المعاشة.
ويستطرد الفضيل في حديثه مضيفًا: بشكل أدق، لقد أدى امتهان كل فريق لمهنة الآخر إلى ظهور هذه الحالة من العبثية في المشهد، فلا الصياد والمزارع حافظ على أسس وتقاليد معرفته، ولا هو حرص على أن يكتسب تقاليد وأسس المعرفة التي انتقل إليها، بل أخذ يتعامل معها بصور ظاهرية، وبالتالي لم يتقن أسسها بشكل كلي، وفي المقابل لم يحافظ ابن مدرسة الكتاب الذي يملك عمقًا معرفيًا في الإطار الفلسفي والمادي للمعرفة، لم يحافظ بدوره على نسقه الخاص، وقرر بدوره تغيير مسار أسرته المعرفي بجرة قلم، والانتقال إلى أسس جديدة وتقاليد أخرى، ولا أعلم ما إذا كان قد حرص على أن يكتسب مهاراتها وقيمها الحضارية والفلسفية أم لا.
بهذه المقدمة الطويلة والمختصرة في آن أقدم إجابتي على تساؤولك المهم، وأحاول أن أبسط مسارات فهمي للمشكلة لأستدل على مكمن الخلل بصورة عامة، وعليه أتصور أن التغلب على المشكلة المعاشة حاليًا يكمن في أهمية أن تتكثف لدى مختلف المثقفين المعاصرين روح ومعاني التربية العملياتية للأسر العلمية، حتى يخرجوا من مأزق تشتيت موروثهم الثقافي بعد ارتحالهم.
إذ المعرفة من وجهة نظري مادة وروح، وأغلب من يمارس المعرفة اليوم، يمارس شقها المادي وحسب، ويتغافل عن شقها الروحي، لكونه لم ينشأ عليها أساسًا، إن كان من أسرة لم تعرف تاريخيًا بامتهانها للأدب والمعرفة، ولم تأسس لنفسها مسارًا علميًا ممتدًا لعقود طويلة أو قرون من الزمن، أو كان من تلك الأسر لكنه لم ينشأ على قواعد التربية العملية للأسرة العلمية، بمعنى لم يعش منذ نعومة عمره بين الكتاب والورق، ولم يشاهد أباه وهو يعتني بكل ورقة اعتناءه بأحد أبنائه، ولم يتدرب على العناية بالكتاب ورعايته كمثل عنايته بأحد إخوته ورعايته له. في هذه الحالة سيكون الكتاب غريبًا عليه، وهو غريب عنه، ونتيجة ذلك الطلاق القسري بعد وفاة صاحب العلاقة الأول. إذ أن العلاقة بين النشء والكتاب هي علاقة تناظرية وليست أحادية، فإذا أحب النشء الكتاب، أحب الكتاب صاحبه، وتكونت بين الاثنين علاقة تسكنها المحبة والألفة، وعلاقة روحية لا يستأنس لها إلا من عرف لب المعرفة وجوهرها.
ويخلص الفضيل إلى القول: ذلك هو لب الإشكال في تصوري، ولا أقول ذلك من فراغ، بل أنا على الصعيد الشخصي أحد من ينتمي إلى أسرة علمية عريقة ممتدة بعروقها المعرفية إلى جذور الزمن، وخرج منها العلماء والأدباء، وساهم أبناؤها على مر القرون بالكثير من المؤلفات النافعة، هذه الرؤيا على بساطتها لفظيًا، لكنها تمثل لديَّ همًا معرفيًا استقيته من والدي، وسأسقيه لأبنائي، وهو ما يحافظ جوهريًا على أي إرث ثقافي يمكن أن يتركه أحدنا للآخر، لكون ذلك من الإرث الحياتي الذي لا غنى عنه. وبالتالي فمن يريد أن يدخل مضمار هذا الفن، فعليه أن يستقي أسس بنائه، ويعمل على تأسيس منظومة متسلسلة من الانتماء المعرفي، ليضمن خاصية الاستمرار والتكامل المعرفي، وليؤسس لبداية أسرة علمية ممتدة، ومن لا يلتزم بتلك الأسس وتلك المفاهيم، فليكن مستعدًا إلى عودة الخلف إلى تبعات السلف على أي شاكلة كانت، وتلك هي أزمة الحالة الثقافية اليوم.
معالجة في مسارين
مشاركة الدكتور عبدالله البريدي ابتدرها بقوله: هذا الموضوع فعلا على درجة من الأهمية وأقدر لملحق الأربعاء التقاطه وطرحه، وأحسب أنه جدير بدراسة متكاملة، ولعل هذا التحقيق يكون نواة لها. في رأيي أنه لا بد من طرح مجموعة من الأسئلة، وعلى رأسها خمسة أسئلة: من هو المثقف الذي يدخل في موضوعنا؟
ماذا نقصد بمكتبة المثقفين؟
متى نعدها مكتبة؟ أهي بالكم أم بالكيف أم بهما؟ هل ثمة أسلوب موحد للتعاطي مع مكتبات المثقفين؟ ما التجارب الموجودة؟ وما إيجابياتها وما سلبياتها؟
ويواصل البريدي مضيفًا: قطعًا، لن أتورط في الإدعاء بأنني سأجيب على هذه الأسئلة في هذه العجالة، وإنما أشير إلى أفكار مبدئية. أعتقد أن المعالجة تكون على مسارين اثنين، الأول مسار ذاتي ينبع من المثقف ذاته، والآخر مسار مؤسسي تشارك فيه الجهات المعنية وعلى رأسها وزارة الثقافة والإعلام.
ففي المسار الأول «الذاتي»، يفترض أن يفكر المثقف في مصير مكتبته بعد أن تتوقف أنفاس قلمه بالموت، هل سيتركها لأولاده «البيولوجيين» أم «الثقافيين»، مع العلم بأنه من الممكن لبعض الأبناء أن يجمع بينهما، وربما يكون هذا نادرًا في الواقع. كما يمكن للمثقف أن يصنف كتبه، ويحدد ما يود أن يتبرع به بعد موته، وما يريد أن يحتفظ به، والأسباب والدواعي هنا متنوعة.
أما المسار الثاني، فإني أقترح على وزارة الثقافة والإعلام بلورة برنامج يمسمى «برنامج مكتبة المثقف»، وفق أهداف محددة، وخطوات إجرائية معينة، بحيث تطرح الوزارة لعموم المثقفين ومن يقتنع بالبرنامج يوقع عقدًا مع الوزارة على تنفيذه، هذا وارد جدًا، وربما يقتنع بعض المثقفين به، إن رأوا بلورة جيدة له. وتجدر الإشارة إلى أهمية دعم الوزارة لدراسة تطبيقية في مجال مكتبات المثقفين، ويمكن تنظيم ملتقى خاص أو إيجاد محور في أحد الملتقيات الثقافية القادمة ودعوة الباحثين والمثقفين إلى تقديم أوراق بحثية حول الموضوع والتجارب العملية.
وينهي البريدي مداخلته بقوله: لا يسوغ لي مغادرة هذه الموضوع دون أن أبدي استيائي الشديد من ضعف اهتمام الوزارة وبقية الجهات المعنية بهذا الموضوع، فنحن لا نكاد نرى مكتبات للمثقفين تلقت دعمًا ورعاية من قبل هذه الجهات، في حين نرى تجارب مميزة في عدد من الدول، فهل يعكس هذا مستوى قناعة مجتمعنا بدور المثقف!!
ويرى الشاعر أحمد قرّان الزهراني أن السؤال عن مصير مكتبة الأدباء والمثقفين مؤلم لأن هذه الثروات التي جمعها المثقفون عبر سنين طويلة ومن أماكن متباعدة وباقتطاع مبالغ مالية من مخصصاتهم المعيشية من أجل أن يجمعوها وفي النهاية لا يستفيد منها الأبناء إلا في حدود ضيقة وقد تذهب الى إحدى المؤسسات أو الجامعات، وهو الملجأ الأخير لمثل هذه المكتبات، وفي تصوري أن المثقف يعي ما مصير مكتبته بعد وفاته لأنه يعرف ميول أبنائه وبالتالي يقرر إما بتوريثها لهم أو بالتبرع بها لإحدى المؤسسات أو الجامعات، ومن هنا يكون دور تلك المؤسسات للحفاظ على هذه المكتبات بشكلها وتصنيفها.
إهمال وضياع
الكاتب سعد بن سعيد الرفاعي قال: لا يخفى ما تمثله المكتبات الخاصة من قيمة علمية ومعرفية؛ لأسباب متعددة تتعلق بنوعية هذه المكتبات وخصوصيتها وتمايز كل مكتبة عن الأخرى من حيث الاهتمامات والاقتناء.. والمقروء المختلف. مما يجعلها بالفعل ثروة معرفية وثقافية كبيرة.. ومما يؤسف له أن مصير بعض المكتبات انتهى إلى سوق الكتب المستعملة لعدم وجود من يهتم بالكتاب من الورثة.. فيما أهديت بعضها بكاملها إلى مكتبات عامة كمكتبات الجامعات.. ويتعين الحفاظ على هذا الإرث أو المكتسب الثقافي عبر تجسير العلاقات بين المكتبات العامة والمكتبات الخاصة ويمكن أن يتحقق ذلك عبر وسائل متعددة منها: مبادرة المكتبات العامة بتقديم الإهداءات من الكتب الجديدة لمكتبات المثقفين. وتقديم خدمات الفهرسة والتنظيم لمكتبة المثقف؛ فالمثقف في نهاية الأمر ثروة وطنية وقيمة فكرية يستحق أن يخدم خدمة للثقافة والفكر.. إننا متى قاربنا المسافة بين القائمين على المكتبات العامة وأصحاب المكتبات الخاصة أمكن الوصول إلى رؤى مشتركة تنبع منهما وتحقق الأهداف المرجوة من اقتناء الكتاب. كما أن المؤسسة الرسمية (وكالة الثقافة) يعول عليها حصر المكتبات الخاصة وتوثيقها عبر إصدار مطبوع وهو مشروع قد بدأت الوكالة فيه سابقا إن لم تخني الذاكرة.
خالصًا إلى القول: إن المثقف صاحب رسالة ومما يحقق رسالته الإفادة من موروثه الفكري والثقافي ولكن ذلك رهن التقارب المأمول والتفاهم المشترك حيال الآليات المناسبة للتنازل المستقبلي وضوابطه ومنها الحفاظ على الحقوق الأدبية لصاحب المكتبة إحياء لذكراه وتخليدًا لاسمه.. وتسببا في الترحم عليه.. وهو ما أراه متحققًا في عدد المؤسسات الثقافية مثل مركز جمعة الماجد بدبي ومكتبة جامعة الملك سعود وغيرهما.
الكاتبة فريدة النقاش شاركت بقولها: إن المكتبة تمثل للمثقف الحياة كلها وبدونها لا حياة للمثقف، ولهذا اقترح أن يقوم بإهدائها إلى المكتبات العامة خاصة عندما لا يوجد من يقوم على رعايتها والاهتمام بها. بخصوص مكتبتي فإنها تضم أكثر من 30 ألف عنوان جمعتها طيلة حياتي، لذلك اعتبرها جزءًا من شخصيتي وكياني ولا أتصور حياتي بدونها.
اطمئنان أسري
واكتفى القاص إدوار الخراط بالقول: بالنسبة لمكتبتي الشخصية التي تضم أكثر من عشرين ألف كتاب متنوعا فإني مطمئن عليها وذلك لأن ابنيًّ لديهما اهتمام بالثقافة وعشق للكتاب.
فيما يؤكد الروائي محمد جبريل أن المجتمع العربي يتعامل مع الكتاب بنظرة دونية، مشيرًا إلى أن بعض أصدقائه كانت لديهم مكتبات ضخمة ومنهم أسماء بارزة جدا بيعت مكتباتهم ثاني يوم وفاتهم وهناك من يلقيها في المنور فيأخذها البواب ويبيعها بالكيلو لبائع الروبابيكيا. ومكتبتي كبيرة تعد بالآلاف وتحتل الشقة كلها وغرفة ابنتي بعد زواجها وكان يسعدني أن اهديها لمكتبة عامة لكن أنا وزوجتي الكاتبة د. زينب العسال اتفقنا أن من يرحل قبل الآخر ينتفع بها الثاني.
ويضيف جبريل: حاولت أن استغني عن جزء من مكتبتي بإهدائها إلى مركز شباب الانفوشي بالإسكندرية عن طريق إرسال الكتب مع بعض الأصدقاء لكن اكتشفت أنها لا تصل إطلاقًا، كما قمت بإهداء بعض الكتب للشباب فوجدتها تباع على الأرصفة.
ويصف الروائي عبدالوهاب الأسواني علاقة الكاتب بالمكتبة أنها مثل المركب للمراكبي فبدون المكتبة يغرق الكاتب، مضيفًا بقوله: مكتبتي تضم أكثر من عشرة آلاف كتاب تتنوع ما بين التاريخ والحضارة حيث بدأت جمعها منذ الصغر وبالنسبة لمصيرها بعد الرحيل فسوف يتولى ابني الاهتمام بها والعناية بها خاصة أنه أديب ويكتب القصة ولولا ذلك لكنت كتبت وصيتي بالتبرع بها للمؤسسات الثقافية العامة.
بين يدي الورثة
يرى الشاعر ماجد يوسف رئيس لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة أن إهمال الدولة في العناية بمكتبات الأدباء يتسبب في ضياعها وفقدها وعدم الاستفادة بها وأشار إلى مكتبة المفكر والناقد محمد مندور بعد وفاته قام صاحب البيت الذي كان يسكن فيه بإلقائها في الشارع ليتخلص منها ويأخذ الشقة فقام ابنه د. طارق مندور بجمعها وإهدائها إلي أكاديمية الفنون. يقترح ماجد يوسف تدخل المؤسسات الأهلية لإنقاذ هذه الثروة الثقافية أو أن يقوم رجل أعمال ببناء دار كبيرة تخصص لضم مكتبات الأدباء مثلما يفعل المثقف الإماراتي الكبير جمعة الماجد حيث ساهم في الحفاظ على مكتبات كثيرة من الضياع والإهمال.
ويضيف قائلا: مكتبتي تضم حوالي 25 ألف كتاب في شتى أنواع وأشكال المعرفة واترك مصيرها معلقًا للورثة إذ ربما يوجد في العائلة من يكون لديه نفس الحب والعشق للمكتبة فيعتني بها فأي شخص في العائلة لديه هذا الهاجس الثقافي يسعدني أن تذهب إليه خاصة وأنني لست على استعداد أن أهديها لجهة تهمل فيها ويكون مصيرها الضياع.
إهداء متدرج
ويؤكد الناقد الأدبي الدكتور يوسف نوفل أستاذ النقد الأدبي بجامعة عين شمس أن هناك عدة ظواهر للتبرع بالمكتبات وإنقاذها من الإهمال والضياع وهناك من يهدي مكتبته في حياته ويوصي بالباقي لجهة ثقافية ما مثل دكتور محمد الحديدي الأستاذ بكلية بنات عين شمس الذي تبرع بمكتبته في حياته للكلية.
مضيفًا: مكتبتي تضم أكثر من عشرة آلاف كتاب وأقوم منذ خمس سنوات بالتبرع بعدد منها إلى كلية التربية بمحافظة بورسعيد مسقط رأسي وقد وصل عدد الكتب التي تبرعت بها حوالي ثلاثة آلاف كتاب وأوصيت أن تؤول باقي المكتبة للكلية بعد وفاتي حتى أضمن لها العناية وينتفع بها الطلاب دائمًا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.