نتحدث دائماً عن المستقبل وكأنه حدث لم يأتِ بعد.. ولكن هل فكر أحد في أن المستقبل هو ما نعيشه (الآن) أو بناء على ما تم التنبؤ به في الماضي؟! حين كنت طفلا صغيرا كانت الصحف والبرامج التلفزيونية تتحدث عن (عام 2000 القادم) وكيف سيكون عليه شكل العالم في "ذلك الوقت".. كان هوس التخمينات يرتفع باقتراب نهاية القرن العشرين حتى وصلنا بالفعل إلى عام 2000 قبل أن يصبح هو بدوره من الماضي!! وكان كاتب الخيال البريطاني آرثر كلارك قد قال في لقاء متلفز عام 1964: "في المستقبل القريب ستدور حول الكرة الأرضية أقمار من صنع البشر تعكس أمواج الاتصالات الى كافة أركان الأرض.. وستظهر شبكة اتصالات عالمية تربط كافة الدول والشعوب بحيث يمكن لشركة من لندن أن تدير أعمالها في تاهيتي أو بالي أو تجتمع بمديرها الإقليمي في هونج كونج أو جوهانسبيرج..". واليوم لم نصل فقط لهذه النبوءة بل تجاوزناها كون الأقمار الاصطناعية تدور منذ سنين حول الأرض، وشبكة الانترنت تمددت حول العالم بسرعة مدهشة، وأصبح التواصل الآني بين الدول والشعوب حقيقة واقعة قبل انتهاء القرن العشرين... أما كاتب الخيال الأمريكي اسحق عظيموف (روسي الأصل) فكان على قيد الحياة حين كنت أنا أقرأ قصصه الجميلة في سن الطفولة.. وقبل وفاته بثمانية وعشرين عاماً كتب مقالا في النيويورك تايمز تحدث فيه عما سيكون عليه شكل العالم بعد خمسين عاماً من الآن (أي في عامنا هذا 2014).. وحين نقرأ اليوم مقاله الذي نُشر في 16 أغسطس 1964 نكتشف أنه صحيح في مجمله.. فقد تحدث مثلاً عن انتشار الروبوتات، وظهور جدران مضيئة بذاتها، وتحضير أطعمة من البتروكيميائيات (وجميعها تقنيات موجودة ولكن حالت كلفتها الباهظة دون انتشارها).. كما تحدث عن بناء محطات فضائية، وحملنا لكمبيوترات تشحن لاسلكيا أثناء سيرنا في الشوارع، وانتشار التعليم بواسطة أجهزة التلفزيون والدوائر المغلقة (وهي أيضا تقنيات لا نستطيع الادعاء أنها غير موجودة).. حتى النبوءات التي لم تتحقق حرفيا في مقالته (مثل ظهور الشوارع المتحركة، وتعديل جينات الشيخوخة، وانتشار أنابيب تعمل بالهواء المضغوط توصل البضائع والطلبات الى المنازل) ظهرت بأشكال مشابهة مثل ظهور الأرصفة المتحركة في الأسواق والمطارات، ونجاح العلماء في عزل جينات النمو والهرم، وازدهار خدمات إيصال البضائع عبر شركات التوصيل السريع! .. وبوجه عام؛ نلاحظ أن النبوءات العلمية تزداد مصداقية كلما تحدثت عن المستقبل القريب وانطلقت من حقائق موجودة حينها (وهو ما يفسر الدقة الكبيرة لنبوءات عظيموف وآرثر كلارك كونها لم تتجاوز الخمسين عاما).. أما حين نتحدث عن النبوءات الأقدم عمرا (كالتي وردت قبل مئة أو مئتي عام في كتب الخيال الكلاسيكية) فنلاحظ أنها إما نبوءات تحققت بالفعل (كفلق الذرة، وتحلية البحر، والصعود للقمر) أو نبوءات صعب علينا تحقيقها (مثل السفر عبر الزمن، والعيش إلى الأبد) أو نبوءات يمكن تحقيقها ولكنها لم تنتشر لأسباب اقتصادية أو سياسية (مثل السيارات الطائرة، والمدن العائمة، واندماج العالم في دولة واحدة).. وجميعها على أي حال تثبت أننا نعيش اليوم في مستقبل تم الحديث عنه في الماضي!! .. وفي الحقيقة ؛ ليس أدل من أننا نعيش في "المستقبل" من أن البشرية عاشت لملايين السنين في الكهوف والغابات، ولم تتعرف على الكهرباء، وتقدم التكنولوجيا والطب، إلا في آخر جيلين فقط!!