"قبل الكتابة، أستمع للموسيقى الرباعية، لكل أشكال الموسيقى أستمع... وعندما ينتصف النهار وأنا على مكتبي، أغير الموجة للمغنية لتينا ترنر وأحرك رسغي بمرونة!" ماري غوردن. وأنت تضع الورقة أمامك مستعدًا للركض على البياض بقدمين من حبر، وأنت تضع بجانبك كوب قهوتك المرّة أو بين شفتيك سيجارتك المنهكة كجنديٍّ نازي لطالما تمنى أن يعود إلى زوجته سريعًا، وأنت تفعل كل هذا من أجل الكتابة.. تذكر بأن ثمة آخرين لهم طقوسهم أيضًا، طقوسهم التي تشبه قصص الساحرات الفانتازية. للكتّاب طقوس مخيفة، وأحياناً مضحكة؛ لأنها قد تشبه وجه المهرجين في حفلات السيرك. في هذا التقرير سنعرض بعضًا من أساليب الكتاب في حث عالم الأبجدية إلى الخروج لأسماع العالم عن طريق تدوينها، فمثلًا الروائية البوليسية الشهيرة أغاثا كريستي كانت لا تأتيها أفكار أعمالها الإجرامية إلا في دورة المياه أو أثناء الاستحمام وهي تشرب العصير الذي تحب، غوته شاعر ألمانيا الكبير والذي جعل الكثير من شبابها يموتون انتحارًا بسبب عمله المؤلم. " آلام فيرتر".. غوته كان لا يكتب إطلاقًا إلا بعد أن يضع طبقًا من التفاح المتعفن على طاولته، وكأنه يريد أن يتذكر الخطيئة التي خرجنا بسببها من نعيمنا الأبدي والجحيم المتراكم فوق ظهورنا ونحن على قيد الحياة. الخيمائي "باولو كويلو" وأديب البرازيل الشهير كان لا يكتب إلا بعد أن يرتدي ملابسه الرثة والمتسخة ويذهب إلى الفقراء في أحياء البرازيل والأزقة البائسة هناك كي يصافح العابرين على الطرقات ويأخذ من أيديهم أجمل الحكايات والقصص، الشاعر والروائي "ريتشارد هنت" كان يكتب وينقح أكثر من عشرات المرات خوفًا من الخطأ.. إنه يعد الكتابة معركة تتربص به فعليه أن يكون حذرًا بشكل قد يحتاج معه إلى الذهاب لعيادة نفسية للعلاج من هذا الوسواس القهري.. إميل سيوران الفيلسوف الفرنسي العدمي الذي كان بالكاد يخرج إلى الشارع لشراء حاجياته الغذائية الضرورية لأنه يشعر بأن العالم جحيم يسيل خراباً.. إميل سيوران من المستحيل وجداً أن يكتب خارج شقته الفوضوية وتحديدًا في مكتبه وبجانب علبة أدويته المضادة للاكتئاب فهو قد يصاب بنوبات هلع في أي وقت نتيجة الأفكار التدميرية التي تضرب على جمجمته الكبيرة.. ماركيز الذي تعلم الكتابة من خلال الرسم على الكرتون، حيث يقول: "قبل تعلمي القراءة والكتابة اعتدت أن أرسم الشخصيات الكرتونية في المدرسة والمنزل، المضحك في الأمر أنني عندما كنت في المرحلة الثانوية كان الجميع يعتقد أني كاتب، برغم عدم كتابتي لأي عمل أدبي حينها، ولكن إن كان لدى أحد الطلاب تقرير أو رسالة لم يستطع كتابتها فالجميع يعلم أنني الرجل المناسب للمهمة". ماركيز الذي كان الطلاب وهو صغير يعتقدون أنه كاتب عملاق؛ لأنه فعلاً كذلك فهو صاحب أجمل روائع الأدب اللاتيني "دراما الخائب، مئة عام من العزلة، زمن الكوليرا".. ماركيز كان لا يكتب إلا عندما يصاب بالحزن الشديد والتمزيق الذاتي وإحساسه العميق بالشفقة تجاه شكله ورأسه الكبير، ومن دون هذا الشعور المؤلم لن يكتب أبدًا.. فيكتور هوغو ببطله الخالد في رواية البؤساء "جان فالجان" كان يبحث قبل كتابة أي عمل عن أقدم الطاولات المتسخة والمشوهة كي يشتريها بدراهمه المعددوة من أجل الكتابة عليها.. ما السر في ذلك؟ ربما كان أحد الفلاسفة اليونانيين الذي كان ينام في الشوارع صادقًا حين قال: - "من كل الأشياء المتسخة يخرج الجمال!!". وأيضًا الشاعر والمسرحي والروائي البنغالي المولود عام 1861 "طاغور" كان لا يكتب أي قصيدة أو مسرحية أو رواية إلا بعد أن يجلس على حافة البحر ويحادثه والتأمل فيه وبعد ساعات طويلة يعود إلى مكتبه الصغير ليكتب ويدوّن كل ما قاله للبحر بطريقته الخاصة.. إميل زولا أشهر روائيي فرنسا في القرن التاسع عشر وأحد أهم من تبنوا الثورة الفرنسية نظرياً حيث قال ذات مرة: "لن تكتمل الحضارة حتى يسقط آخر حجر في آخر كنيسة على رأس آخر قسيس".. إميل زولا كان لا يكتب إلا على شمعة واحدة.. شمعة واحدة فقط وليست شمعتين!!.. كما يذكر الباحث محمد عيد أن بورخيس قبل الكتابة كان يغطس في الصباح الباكر في حوض الاستحمام ليستغرق في التأمل وليناقش الحلم الذي حلمه الليلة الفائتة، وليدرس إن كانت فكرة الحلم تنفعه في صياغة أدبية ما، فإذا اهتدى إلى البداية والنهاية قام من حوض الاستحمام ليكتب!!. أما عربيًا فشاعر المهمشين الماغوط كان لا يكتب إلا عندما يبحث عن الخلاص من الحزن والتمزق الداخلي معبراً بذلك بقوله: "هنا.. في منتصف الجبين... حيث مئات الكلمات تحتضر، أريد رصاصة الخلاص، أريد رصاصة الخلاص!!".. كذلك توفيق الحكيم كان قبل أن يكتب يشرب ما يقارب عشرين كوبًا من القهوة.. أما (خيري شلبي) فقد كان غريب الأطوار أثناء الكتابة كما يذكر (الخربوطلي): " إنه يتحول إلى شخص لا يُطاق، وكثيراً ما كانت زوجته تنصحه أن يكتب من داخل سرداب، لا يرى أحداً ولا أحد يراه، لذلك أقام فعلاً في مقبرة خاصة بأسرة منقرضة منذ القرن الثامن عشر، وأنجز ثلاثاً من أهم رواياته الطويلة (ملحمة الشطار، الأمالي، موال البيات والنوم)، ومن طقوسه الغريبة أنه قبل الكتابة يُصاب باكتئاب حاد، ويشعر برغبة جامحة في الانتحار، ويشعر كأن أسباباً غامضة أتت به إلى الحياة، لكي تعذبه وتغذيه حقداً على حدِّ قوله، وباعترافه هو أنه بالفعل لحظة الكتابة لا يطيق أولاده ولا زوجته ولا معارفه ولا أصدقاءه، ويشعر أنهم هم الآخرون لا يطيقونه، هكذا تنتابه حالة من السُّخط، لكن ما أن يكتب صفحة واحدة حتى يشعر بأن العالم فسيح وأنه سيتحرر من هذه الحالة المرضية، فيعود من جديد مكتئباً ويواصل الكتابة كما لو كان يقاوم، وحينما ينتهي من الكتابة ويخرج من هذا السجن ويشعر بالشفاء، يبادر بإصلاح ما أفسده الإبداع، فيزور أهله وأصدقاءه، ويتحول إلى شخص ودود ومرح، وفي هذا الجو يعيد نسخ ما كتبه ويبيضه".