ما بين أحياء "أجياد" و"العتيبية" القديمة بمكةالمكرمة، عاش الشيخ "محمد يوسف" -76 عاماً-، حيث قضى (53) عاماً داخل مكبرية البيت العتيق، يصدح بنداء الحق من أمام الكعبة المشرفة التي تتوسط المسجد الحرام بكل هيبة وجلال، ليُصبح أحد أقدم مؤذني بيت الله الحرام، وشاهدا على عصر يحتفظ بمعلومات عن تاريخ الأذان، حيث عاصر عشرات المؤذنين والأئمة ممن تشرفوا بخدمة البيت العتيق، ولازالت ذاكرته على الرغم من تقدم سنه تحتفظ بجزئيات مهمة تؤرخ للأذان في قبلة العالم. وقال في حوار ل"الرياض" إن بداية الأذان في الحرم كانت في حدود عام 1382ه، حيث تقدمت لرفع الاأذان وكان عمري (23) عاماً تقريباً، بعد مشاهدات يومية وتدريب منزلي مكّنني من صعود منارة الحرم المكي، مبيناً أنه لم يُفكر بالانتقال لأي جهة أخرى للعمل أو إكمال دراسة أو تعليم نظامي، حيث كان قنوعاً بمهمة أداء الاذان، وكذلك الاستمتاع بالأجواء الروحانية داخل الحرم، مشيراً إلى أن عادته منذ أكثر من نصف قرن الخروج مبكراً من منزله بعد الاغتسال والوضوء والتطيب باتجاه الحرم المكي، حرصاً منه على الوصول إلى "المكبرية" بوقت يمكنه من التهيؤ وأداء ما تيسر من الصلاة وقراءة القرآن الكريم، متمنياً أن يحمل أحد أبنائه أداء المهمة في الحرم المكي ليواصل شرف الأسرة مع خدمة الحرم المكي من خلال الأذان، وفيما يلي نص الحوار: محطة البداية * متى بدأت الأذان في الحرم المكي؟ - أنا من أسرة مكية توارثت الاذان في الحرم المكي لأكثر من (350) عاماً، وهو شرف نفخر به، حتى أصبحنا نعرف بأسرة المؤذن، وقد أدركت والدي وجدي وهما يؤديان هذا الشرف الذي نفخر به، ولم يخطر ببالي أن إصرار والدي على مرافقته للحرم المكي مشياً ويومياً سيكون الطريق الذي يقودني لشرف يتمناه أي مسلم في العالم الإسلامي، وهو شرف الوقوف أمام الكعبة لرفع نداء الحق، في عصر كان الناس يحرصون على امتهان مهنة وحرفة صناعية تدر عليهم لقمة العيش، وكانت البداية في حدود عام 1382ه، حيث تقدمت لرفع الاذان وكان عمري (23) عاماً تقريباً، بعد مشاهدات يومية وتدريب منزلي مكّنني من صعود منارة الحرم المكي لرفع الأذان، حيث لم تعرف مكبرات الصوت بعد، وكان الأذان يرفع من خلال صعود المؤذنين على منارات الحرم إلى أن دخلت تقنية مكبرات الصوت في منتصف التسعينيات الهجرية في عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز -رحمه الله-. صوت الشيخ «علي ملة» جهوري وعذب و«نايف فيدة» يعيدني إلى أيام شبابي.. أجواء روحانية * هل فكرت بالانتقال إلى جهة عمل أخرى؟ - ولعي بأداء الأذان جعلني ملازماً لبيت الله الحرام، ولم يعد أمامي سوى هذا الشرف، حتى إنني لم أُفكر بالانتقال لأي جهة أخرى للعمل أو إكمال دراسة أو تعليم نظامي، حيث كنت قنوعاً بمهمة أداء الأذان، وكذلك الاستمتاع بالأجواء الروحانية، حتى إنني كنت أواصل الجلوس لساعات طويلة ترقباً لموعد أذان الصلوات في الحرم المكي، وأشعر بسعادة كبيرة وأنا أزهو بشرف هذه المهمة السامية، وتحقيق أمنيات والدي في حمل شرف الأسرة في خدمة البيت العتيق من خلال رفع الأذان، فرغم تواضع المكافأة التي كانت تقدّم لي، إلاّ أن إحساسه بقدسية المكان وجلاله وأهمية المهمة جعلته يتجاهل كل شيء. مكبرية الحرم * كيف كُنت تستعد لمهمة الأذان؟ - إذا كان البعض يتهيأ للخروج من منزله باتجاه مقر العمل القريب قبل دقائق معدودة، إلاّ أنني أخرج من منزلي في "حي العتيبية" الشعبي قبل أربع ساعات تقريباً تحسباً لأي طارئ لا سمح الله، خاصةً وأنني مؤتمن على مهمة شرفية كبيرة مقترنة بعمود الإسلام وسنامه وهي الصلاة، وعادتي منذ أكثر من نصف قرن الخروج مبكراً من منزلي بعد الاغتسال والوضوء والتطيب باتجاه الحرم المكي، فيما أُبكر أكثر في أيام المواسم التي يشهد الحرم المكي فيها زحاماً شديداً مثل أيام شهر رمضان وموسم الحج من كل عام، حرصاً مني على الوصول إلى "المكبرية" بوقت يمكنني من التهيؤ وأداء ما تيسر من الصلاة وقراءة القرآن الكريم والذكر إلى أن يحين موعد رفع الأذان ثم أداء الصلاة والذهاب إلى المنزل لأخذ قسط من الراحة، وقضاء جل وقتي داخل المنزل بين أولادي وأحفادي، فخصوصية التقدم في العمر وإجرائي لعملية جراحية في القلب قبل سبع سنوات لا تساعدني على الخروج كثيراً، كذلك معظم وقتي في رمضان داخل المنزل أقضيه مع أفراد الأسرة، وكذلك متابعة صلاة التراويح عبر القنوات السعودية للاستمتاع بتلاوات أئمة الحرم المكي وتكبيرات المؤذنين من خلفهم، إضافةً إلى متابعة تطورات الأحداث السياسية وآخر أخبارها مع قراءة القرآن الكريم والتواصل هاتفياً مع الأقارب. * هل سبق وأديت الأذان خارج الحرم المكي؟ - لم أؤد الأذان في أي مسجد خارج مكةالمكرمة، إلاّ أنني أتمنى أداءه في المسجد النبوي والمسجد الأقصى. * من يُعجبك من مؤذني الوقت الحالي؟، ومن ترى نفسك فيه؟ - أفضل المؤذنين الآن في الحرم المكي الشيخ "علي ملة" بصوته الجهوري والعذب، وتمكّنه من أداء الأذان بطريقة عذبة، لكنني أرى ماضي شبابي في المؤذن الحالي "نايف صالح فيدة"، حيث أسترجع الماضي الجميل في منارات الحرم المكي كلما سمعته يصدح بنداء الحق. سفري قليل * السفر، هل كان له نصيب في حياتك؟ - لم يكن للسياحة والسفر مكان في حياتي، حيث لم أُغادر المملكة إلاّ مرة واحدة، ولا أعرف من مدن المملكة سوى المنطقة الغربية، وبعض الزيارات القصيرة للرياض، كذلك لم أحصل على جواز سفر إلاّ مرة واحدة لحاجتي للذهاب خارج المملكة لعلاج ابنتي، فأنا لا يمثّل عندي السفر والترحال للسياحة أي عامل جذب لي، وأشعر أنني في "جنّة الدنيا" داخل الحرم المكي بما فيه من روحانية مفعمة بالإيمان، وتشبع ذائقتي وتلبي احتياجاتي. زواج وأمنيات * ماذا عن زواجك؟ - حدث في عام 1389ه، حيث تزوجت في حي "أجياد السد"، وهو الحي الذي عشت فيه مراحل الطفولة والصبا، وكان مهر زوجتي بسيطاً لا يتجاوز آلافا معدودة، لكنني كنت في قمة الأنس والسعادة وأبناء الحي يشاركونني وأسرتي فرحة الزواج، حيث تم إضاءة أزقة وشوارع الحارة بالأنوار، وتم رش الأرض بالماء والمفارش الحمراء، وتم تقديم الحلويات والأطعمة والمشروبات لمدة سبعة أيام، ورُزقت بثلاثة أولاد هم "نايف" و"فهد" و"ماهر"، إضافةً إلى ثلاث بنات جميعهم يقيمون معي في مكةالمكرمة. * لكل شخص حلم، ما حلمك؟ - أحلم أن يحمل أحد أبنائي شرف أداء الأذان في الحرم المكي ليواصل شرف الأسرة مع خدمة الحرم المكي من خلال الأذان، خاصةً وأنني المؤذن السابع في تاريخ أسرتي، ممن تشرف بهذه المهمة وتوارثها أباً عن جد، ومن يحمل مهمتي بعد وفاتي هو هاجس يحاصرني آناء الليل وأطراف النهار، كذلك أتمنى أن أحصل على منزل يجمعني بأولادي بدلاً من منزلي الشعبي. توسعة عملاقة * ما الفوارق التي لمستها بين الحرم المكي في الماضي والحاضر؟ - معاصرتي لتاريخ بناء وعمارة الحرم المكي جعلتني أعيش مذهولاً هذه الأيام من حجم العمل اليومي الذي يشهده الحرم المكي في مجال العمارة وتوسعة المطاف، إضافةً إلى توسعة المسعى، وما حدث من عمارة في الحرم المكي أشبه بحلم بالنسبة لي، خاصةً وأن ملامح الحرم القديم لازالت باقية في ذاكرتي الموغلة في القدم، وقد شهد عصر خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -حفظه الله- عناية فائقة وغير مسبوقة في مستوى البناء والخدمات المقدمة، فمن مطاف مفروش بالحصى ومن مياه زمزم توزع ب"الدوارق" ومن مسعى ضيق إلى توسعة عملاقة ومياه زمزم مبردة على مدار الساعة، إضافةً إلى خدمات توجيهية وإرشادية ضخمة وتوسعة عملاقة. الشيخ محمد يوسف يتمنى أن يخلفه أحد أبنائه في مهمة رفع الأذان في الحرم المكي عشقه للأذان منعه من الانتقال لأي عمل آخر