فجعت الأوساط العلمية والثقافية، بل وفجع الوطن بأسره بوفاة عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر، وزير الدولة عضو مجلس الوزراء، الباحث المحقق، والمؤرخ الثبت، والعالم المدقق الذي لا أحسبه توقف عن الكتابه والتأليف حتى سقط قلمه من يده حينما فاضت روحه (رحمه الله) إلى بارئها. كان الدكتور عبدالعزيز الخويطر علماً بارزاً، ونجماً ساطعاً في سماء العلم والثقافة في بلادنا وفي خارجها؛ حقق البروز والتفوق في تحصيله العلمي في جميع مراحل دراسته، واستحق الريادة عن جدارة في تخصصه العلمي، وتأهله الأكاديمي بوصفه أول أستاذ سعودي للتاريخ في إحدى أعرق جامعات بلادنا هي جامعة الملك سعود، وعُرف بالجد والاجتهاد والمثابرة أستاذاً أكاديمياً، ومؤرخاً محققاً، وكاتباً وباحثاً ومؤلفاً متنوع العطاءات، ومسؤولاً إدارياً ورجل دولة من الطراز الأول، وصاحب إسهامات مميزة في ميادين كثيرة يأتي على رأسها علم التاريخ الذي أحبّه شيخنا وعشقه وتخصص فيه، وله فيه، وفي طرق البحث العلمي المتعلقة به، التآليف الجادة المميزة، والتحقيقات العلمية الرصينة، ولازمة الحس التاريخي، ومهارة المؤرخ، وملكة الكتابة التاريخية في جميع ما ألَّف بما في ذلك مذكراته التي هي في واقع الأمر تاريخ حتى آخر نقطة فيها. لم يلتفّ شيخنا الدكتور عبدالعزيز الخويطر (رحمه الله)، أو يحشر نفسه في عباءة مذكراته، وإنما اتسعت تلك العباءة لتشمل كثيراً من قضايا التاريخ الاجتماعي، والإنساني، وأنماط التراث التقليدي، وخطط المدن، وأساليب حياة الناس، ومعاشهم، وأشكال المباني التراثية التي رآها وعاصرها وسكنها، ووصفها، وخلاف ذلك مما في تلك المذكرات من الدلالات التاريخية المفيدة التي لا يستغني عنها أي باحث في التاريخ الاجتماعي، وفي علم (الإثنواركيولوجي) في كل من عنيزةومكة على سبيل المثال لا الحصر. وفضلاً عن ذلك فقد كان الخويطر كما يعلم الجميع متعدد المواهب، غزير الإنتاج، واسع المعرفة والثقافة، يتمتع بقلم فياض، ولغة راقية، وأسلوب سلس جميل، ومهارات فائقة في الكتابة والتحرير، وذاكرة متَّقدة، وفكر نيَّر واسع الأبعاد. ولو تَفَرّغ للكتابة والتأليف والنشر لجاء بما لا تستطيعه الأوائل، ولَرَفَد المكتبة العربية بأضعاف مضاعفة لما أنتجه من تآليف حتى وفاته رحمه الله. ومع ذلك، فهو معروف بغزارة إنتاجه، وتنوعه، وشموله لميادين واسعة، وفنون كثيرة تفوق جهد الفرد الواحد، مهما أوتي من المال، والوقت إلا أن يكون في مثل موهبة شيخنا الدكتور عبدالعزيز الخويطر، وهمته، واستعداده الفطري والمكتسب، وقدرته على الكتابة والتحرير، وحسن تنظيمه لوقته، والاستفادة منه على نحو ما كان يفعل شيخنا طوال حياته رحمه الله فقد سمعته في أكثر من مرة يقول: لو يكتب الإنسان صفحة واحدة في اليوم لوجد نفسه يكتب كتاباً من 360 صفحة في كل سنة. على أن ما يهمني من تآليف شيخنا وتحقيقاته تلك التي تتصل بالتاريخ، وهي في حدود ما وصل إلى يدي منها كثيرة جداً، وسأقسمها إلى أربعة أقسام؛ يختص القسم الأول منها ببعض ما حققه من مصادر التاريخ العربي المخطوط، والقسم الثاني بما ألفه في التاريخ، والقسم الثالث بما ألفه في طرق البحث العلمي في التاريخ كذلك، والقسم الرابع يختص بالقيمة التاريخية لما نشره من مذكراته الشخصية، وهذا باب طويل جداً وغزير، ويحتاج إلى وقفات أطول في غير هذا الحّيز الضيق. وأول ما حقق الدكتور عبدالعزيز من كتب التراث كتاب: الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر، تأليف القاضي محيي الدين بن عبدالظاهر (الرياض: نشر المحقق 1396ه/ 1976م). هذا الكتاب من الكتب المهمة التي عُني شيخنا الدكتور عبدالعزيز الخويطر بتحقيقها، وهو مصدر مهم لا يستغني عنه أي باحث في التاريخ الإسلامي الوسيط، ولاسيما العصر المملوكي، وبصورة خاصة عهد السلطان الملك الظاهر بيبرس الذي تخصص فيه المحقق. والكتاب الثاني هو: حسن المناقب السَّريَّة المنتزعة من السيرة الظاهرية، تأليف شافع بن علي بن عباس (الرياض: نشر المحقق 1410ه/ 1989م). وللكتاب طبعة قديمة نافذة هي الطبعة الأولى (الرياض: مطابع القوات المسلحة 1396ه/ 1976م). هذا الكتاب من الكتب المهمة جداً، ويأتي في الأهمية بعد سابقه إن لم يتفوق عليه من حيث الوثوق به كونه أُلِّف بعد وفاة جَدِّه لأمه محيي الدين بن عبدالظاهر، مؤلف السيرة الظاهرية، مما أعطاه الحرية في مناقشة بعض الحقائق التاريخية التي أوردها سابقه بصورة مجردة من الهوى والعاطفة. أما الكتاب الثالث فهو: تاريخ أحمد بن محمد المنقور (ت 1125ه)، تأليف الشيخ أحمد بن محمد المنقور، (الأمانة العامة للاحتفال بمرور مائة عام على تأسيس المملكة، 1419ه/ 1999م). هذا الكتاب وعلى الرغم من صغر حجمه فإن له أهمية خاصة عند محققه بوصفه ثاني محاولة عن تاريخ نجد في زمنه بعد تلك التي اضطلع بها الشيخ أحمد البسام، وأيضاً بوصفه تسجيلاً واقعياً للأحداث الواقعة في نجد في زمن المؤلف وقبله بدءاً من منتصف القرن العاشر الهجري. أما القسم الثاني من جهود الخويطر في خدمة التاريخ فتتمثل في مؤلفاته وكتاباته المصبوغة في الغالب بصبغه تاريخية، ذلك أن من يقرأ ما كتبه شيخنا (رحمه الله) من مقالات للصحف والمجلات، وما نشره من مذكرات وكتب أخرى في غير موضوع التاريخ يلمس فيها جميعها الحس التاريخي، ومنهج المؤرخ الذي تلبَّسه طوال سني حياته وإسهاماته المميزة في العطاء الفكري، و لابد أن له أبحاثاً تاريخية في مجلات علمية، أو كتب محررة أعترف بتقصيري في عدم استقصائها كلها. وما وصلني من كتب شيخنا الخويطر في التاريخ ثلاثة كتب فقط هي: الملك الظاهر بيبرس، الطبعة الثالثة، (الرياض: 1410ه/ 1989م)، ويوم وملك، الطبعة الرابعة (الرياض: 1419ه/ 1998م)، ولمحة من تاريخ التعليم في المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى (الرياض: 1424ه/ 2003م). فالكتاب الأول وهو الملك الظاهر بيبرس من أهم ما كًتب عن تلك الشخصية العظيمة، والقائد الفذّ، والمجاهد الكبير ضدّ الصليبيين والتتار على حد سواء، بل وعن فترة تاريخية مهمة من تاريخ مصر والشام، وما جاورهما تمتد من أواخر العصر الأيوبي حتى وفاة الملك الظاهر بيبرس في سنة 676ه/ 1277م. ومما يدعو إلى الدهشة في تقديري الشخصي جمال الأسلوب الذي صيغت به مادة هذا الكتاب، وسلاسته، وانسيابيته، وقِصّر جمله، ومباشرته في الوصول إلى المعاني التي يقصدها كاتبه، والأفكار التي يطرحها، فهو السهل الممتنع الذي لا يحسنه، ويجوِّد فيه إلا من هم في مثل مقدرة شيخنا الدكتور عبدالعزيز الخويطر وعلمه، ورُقِيِّ أسلوبه، ولغته رحمه الله. أما الكتابان الآخران فقوامهما مقالات تاريخية نشرت متفرقة في مناسبات مختلفة أولهما وهو: يوم وملك (جزءان) أُختصّا بما نشر شيخنا د. عبدالعزيز الخويطر من مقالات بمناسبة اليوم الوطني، وكلها تدور حول هذا اليوم وأهميته، وحول الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود (رحمه الله) الذي وصفه بأدقّ الأوصاف الجسميّة، ووصف شجاعته، وإقدامه، وكرمه، وعفوه، وصبره، وفراسته بأبلغ العبارات التي صاغها قلمه بعناية المؤرخ المدقق، وبلاغة الكاتب المحقق، وأسلوب الأديب البارع. أما الكتاب الثالث وهو: لمحة من تاريخ التعليم في المملكة العربية السعودية، فهو مقالات تاريخية أيضاً، وإنما عن تاريخ التعليم، كتبها شيخنا في مناسبات متفرقة، وأزمان مختلفة، ثم جمعها (رحمه الله) في هذا الكتاب الصغير في حجمه، الكبير في نفعه وفي الفائدة المرجوة منه، وهو أن يكون مرجعاً لمن سيؤرخ للتعليم في المملكة العربية السعودية، وأنعم به من مرجع؛ لكون كاتبه ممن عاصر بواكير التعليم في المملكة، ولكونه من الرواد الأوائل في التعليم تلميذاً صغيراً في المدرسة الابتدائية في عنيزة، وطالباً مبرِّزاً في مراحل التعليم العام في مكة، ومبتعثاً من المبتعثين الأوائل إلى مصر، ثم إلى المملكة المتحدة، وأول عضو هيئة تدريس ومسؤول في أول صرح أكاديمي في بلادنا، وأطول وزراء المعارف (وزارة التربية والتعليم حالياً) مكثا على مقعد الوزارة في المملكة العربية السعودية. أما القسم الثالث من مؤلفاته رحمه الله فهو في طرق البحث العلمي، وفي دراسة المصادر التاريخية، ومنها كتاب واحد صغير في حجمه كبير في فائدته ونفعه، عنوانه: في طرق البحث العلمي، الطبعة الثالثة (الرياض: 1426ه/ 2005م). وهو في حدود علمي أول كتاب منهجي ألفه مؤرخ سعودي في طرق البحث العلمي، وفي اعتقادي أنه لا يستغني عنه أي دارس أو باحث في علم التاريخ، بل إنني أنصح كل من لديه النية في التأليف في التاريخ أن يقرأ هذا الكتاب قبل البدء في مشروعه؛ لأنه سيكون خير عون له، وسيأخذ بيده من نقطة البداية حتى النهاية، وسيكون مشرفه، ومرشد وموجّهه، وسيرسم له الإستراتيجية المنهجية التي لا ينبغي له أن يحيد عنها. أما الكتاب الثاني من هذا القسم هو كتاب: عثمان بن بشر منهجه ومصادره، الطبعة الثالثة (الرياض: 1426ه/ 2005م). هذا الكتاب يُلحق بسابقه لما يُعتقد بوجود صلة له بمنهج البحث العلمي، وهو من الدراسات العلمية المهمة والمنصفة التي أُعدِّت عن ابن بشر، ولعلها أول دراسة في موضوعها، ولا أعلم إن كان هناك من درس هذا المؤرخ النجدي الرائد بعد هذه الدراسة أم لا!، ويُعجبني في شيخنا الدكتور عبدالعزيز الخويطر أن كتابة التاريخ عنده واجب وطني على كل من يستطيعها، فهو يحاول في كل مرة أن يسرق من وقته الثمين ليسهم في أداء شيء من هذا الواجب، بل ومن باب إبراء الذمة التي يراها ويعتقدها ويتمثلها شيخنا، والتي هي عنده: "ذمة مؤرخي هذا العصر أمام واجب الثقافة والإدراك والوطنية المتوقعة فيهم. وما دراسته هذه عن ابن بشر إلا من باب حبه لتاريخ وطنه، وشعوره بما يحتمه عليه الواجب تجاه العناية به، وفاءً له، وإبراءً لذمته (وهو المؤرخ الأكاديمي الرائد) من أي تبعات أمام واجب الثقافة الذي يعتقده ويقول به قولاً وعملاً. القسم الرابع: القيمة التاريخية لمذكرات الدكتور عبدالعزيز الخويطر: من المؤلفات المهمة التي أثرى بها شيخنا الدكتور عبدالعزيز الخويطر المكتبة العربية مذكراته المعنونة: وسم على أديم الزمن "لمحات من الذاكرة". وهي تسجيل واقعي لصور المجتمعات، وأسلوب الحياة في المدن والقرى التي عاش فيها، وتنقل بين ربوعها، فضلاً عن الناس الذين كانت له بهم صلات قربى، أو معرفة، أو مواطنة، أو زمالة دراسة أو سفر، ثم زمالة عمل بعد حصوله على الدكتوراه في عام 1380ه وأيضاً مشايخه، ومن تتلمذ على أيديهم صغيراً في عنيزة، وصبياً يافعاً في مكة، وشاباً في القاهرة ولندن. وهي من أمتع المذكرات، ومن أسهلها وأبسطها وأخفها دماً إن جاز التعبير ومن أكثرها فائدة لدارسي الحياة الاجتماعية في مسقط رأسه عنيزة، ومرتع صباه مكةالمكرمة على سبيل المثال لا الحصر. كما تعدّ هذه المذكرات من المصادر التاريخية المهمة بوصفها تسجيلاً حياً لمختلف الوقائع، والمشاهد، والمواقف، والحكايات التي وردت فيها، من قبل شاهد عيان رآها وعايشها، وكان طرفاً أساسياً في معظمها. وله (رحمه الله) كتابان آخران مهمان لهما وجه تاريخي هما: أي بُنَيّ: مقارنة بين ماضينا وحاضرنا (ط2، 1409ه/ 1989م)؛ وإطلالة على التراث من عدة مجلدات (الرياض: 1414- 1425ه/ 1993-2004م). ستكون لنا معهما وقفة أخرى إن شاء الله. رحم الله الدكتور عبدالعزيز الخويطر رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جنانه، وعظيم الأجر لأولاده وأسرته وزملائه وتلامذته وسائر أقاربه ومحبيه وللوطن بأسره.