إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير وبعد.. فإن إقفال الأسواق وقت الصلاة.. هو إجراء لا مدعاة له ولا ضرورة.. كما أنه لم يطبق في أي وطن من أوطان الإسلام منذ أن نزل الوحي على محمد.. فالمسلم يستطيع - بل وله الحق شرعاً - أن يصلي في بيته أو في محله أو في مكتبه أو في دكانه أو في الشارع أو في المسجد، وكلها صلوات سيأخذ عليها درجات وستكون مقبولة من رب العزة جل وعلا.. هذا إذا أدّاها كفرض من فروض الإسلام وقلبه بالإيمان عامر، لذا فإنه لا يجوز للهيئة في ديارنا أو المحتسبين أن يسوقوا الناس زُمَراً إلى الصلاة في المسجد ويأمرون بقفل الحوانيت والمحلات ومنع الناس من العمل.. إذ إن إجراء كهذا يسبب ضيقاً وعنتاً للمسلمين، ناهيك بآلاف الملايين من ساعات العمل التي تذهب هدراً على اقتصاد هذه الديار، وهو ما يأتي بمضرة لها أثرها البائر على النشاط الإداري والصناعي والتجاري، أقول: آلاف الملايين من ساعات العمل.. وليس في قولي تهاويل، فهَبْ -رعاك الله- أن الدولة لديها مليون موظف فإنهم يتوقفون - طبقاً لما تقتضيه اللائحة التنفيذية لنظام هيئة الأمر بالمعروف وليس نظامها - عن العمل ساعة من النهار عند صلاة الظهر رغم أن لها براحاً من الوقت.. فالموظفون يستطيعون ولهم الحق شرعاً تأديتها بعد الخروج من العمل، نقول: تذهب مليون ساعة كل يوم في الضياع، ولو ضربناها في أيام الشهر لأضحى عددها (26) مليون ساعة وفي السنة (320) مليون ساعة وهذا بالنسبة لنشاط الدولة، ولو يممنا النظر شطر النشاط التجاري والصناعي لَبَانَ ضياع الوقت هذا كالشمس في رابعة النهار، فهَبْ - رعاك الله - أن لدينا على الأقل خمسة ملايين رجل يعملون في هذين القطاعين، سواء كان رئيساً أو موظفاً أو عاملاً في مشاريع الصناعة والتجارة أو في الحوانيت والمستشفيات والصيدليات والبقالات ومحطات الوقود وغير ذلك من المؤسسات الصناعية والتجارية، فهؤلاء الذين يعملون يلزمون بالوقوف عن العمل مدة تضاهي أربع ساعات في اليوم، لأنهم يلزمون بالتوقف عن العمل مدة تضارع ساعة أو أربعين دقيقة عند كل فرض، وعليه فإن من يضرب أربع ساعات في خمسة ملايين يجد أن ما يذهب على نشاط البلاد في اليوم (20) مليون ساعة، وإذا ضربناها في ستة وعشرين يوماً فإنها تصَّاعد إلى (520) مليون ساعة في الشهر، وفي السنة (6240) مليون ساعة عمل.. أي أن آلاف الملايين من الساعات هذه كلها تضيع هباءً على اقتصاد هذه البلاد، ناهيك بالحراجة والضيق والعسف والعنت الذي يسببه لأصحاب المصالح في إدارات الحكومة، ومؤسسات الصناعة والتجارة، وفي الأسواق وذوي الحاجات والمرضى وربات البيوت والمسافرين وهم يُعَدون بالملايين، كل هؤلاء.. وعلى رأسهم اقتصاد البلاد يعانون الكثير الكثير بسبب اجراء لم يأتِ به لا نص في القرآن ولا في السنة، كما أن الفقهاء في كل المذاهب لم يقولوا به، ولا أيضاً الأعراف التي سارت عليها كل بلاد المسلمين في هذه الدنيا، كذلك لم يأت نظام (قانون) من ولي الأمر يقول بإقفال المحلات، فنظام هيئة الأمر بالمعروف الصادر في 26/10/1400ه بالمرسوم الملكي رقم (أ/37) خاوٍ من أي نص يقضي بتوقف دوائر الحكومة أو المحلات أو المصانع عن العمل وقت الصلاة، فالذي أمر بذلك هو نص ورد في اللائحة التنفيذية التي أصدرها ذلك الذي كان رئيساً لهيئة الأمر بالمعروف بقراره رقم (2740) في 24/12/1407ه، وذلك بعد أن حباه نظام الهيئة في المادة (19) سلطة اصدار اللائحة هذه، وإذا أخذنا بالقواعد التي سنّها الفقه واستقر عليها القضاء، نلفيها قد أسدت دوراً معيناً للائحة التنفيذية لأي قانون (نظام)، هذا الدور يتمثل في تبيان طرائق تنفيذ ما نص عليه القانون (أي النظام)، ولهذا فإن رئيس الهيئة قد جعل المادة (1) من اللائحة مختصة بتبيان تنفيذ واجبات الهيئة التي نصت عليها المادة (9) من نظام الهيئة والتي تقول: (من أهم واجبات الهيئة إرشاد الناس ونصحهم لاتباع الواجبات الدينية في الشريعة.. وحمل الناس على أدائها، وكذلك النهي عن المنكر بما يحول دون ارتكاب المحرمات، أو اتباع التقاليد السيئة أو البدع المنكرة، ولها في سبيل ذلك اتخاذ الاجراءات وتوقيع العقوبات المنصوص عليها في النظام)، ومن يسبر نص الفقرة الثانية من المادة (1) من اللائحة التي شرعها رئيس الهيئة والخاصة بتنفيذ المادة (9) يلفيه قائلاً: (على أن يراقب أعضاء الهيئة إقامة الصلاة في أوقاتها وحثُّ الناس عليها، والتأكد من غلق المتاجر والحوانيت وعدم مزاولة البيع أثناء أوقاتها). - إن من يتدبر هذه المادة من هذه اللائحة لا تغرب عن ذهنه ملاحظات معينة هي: (أ) - إن مرام هذه المادة التي أوردها رئيس الهيئة هو طبقاً لما استقر عليه الفقه - كما ذكرنا - أن تَضَع موضع التنفيذ (mise en application) ما أمر به نص المادة (9) من نظام الهيئة، لأن اللائحة - كما ذهب الفقهاء - هي محض تشريع فرعي للقانون (للنظام) وصدورها هو فقط لتنفيذه وتبيان ذلك عبر تحديد التفاصيل الخاصة بتطبيقه (أنظر: سليمان مرقص – المدخل للعلوم القانونية ص 106 – عام 1952 –) وانظر أيضاً في الفقه الفرنسي (مقدمة في القانون المدني ص 117 رقم 110– الطبعة (23) عام 1995) لكاربونييه أستاذ القانون المدني بكلية الحقوق بباريس . Il a pour but de régler les détails d'application d'une loi = Voir: Carbonnier (Introduction de droit civil) Page 175, N 110 – Ed , 23-1995 ). - وحفاظاً على حريات الناس وحقوقهم، فإن الفقهاء يلزمون بأن تتقيد اللائحة بالتشريع (النظام) الذى صدرت هي نفسها لتنفيذه ولا تتعدّى حدوده [ أنظر : سليما مرقص - المرجع السابق ص 106 وكاربونييه المرجع السابق ص 118 ]. (le reglement est conraint au respect de la loi supérieure- Voir: Carbonnier (Introduction de droit civil) –P 118 N110 ). (ب) ولو نظرنا إلى نص المادة (1-ثانياً) من اللائحة التنفيذية الذي رام تنفيذ نص المادة (9) من نظام الهيئة وتبيان تفاصيل ذلك، لسبرنا فيه (غواية) عن نص المادة (9).. فهو لم يتقيد به.. بل أتى بما هو جديد على نظام الهيئة نفسه.. وآية ذلك هو أن نص المادة (9) من النظام قال: (إن من واجبات الهيئة إرشاد الناس ونصحهم لاتباع واجبات الدين وحملهم على أدائها.. والنهي عن المنكر بما يحول دون ارتكاب المحرمات.. إلخ)، بينما نجد نص المادة (1/ثانيا) من اللائحة يقول: (مراقبة إقامة الصلاة في أوقاتها في المساجد وحث الناس على تلبية النداء وعليهم التأكد من إغلاق المتاجر والحوانيت وعدم مزاولة أعمال البيع خلال أوقات إقامتها). - فنص المادة (1) من اللائحة التي أصدرها رئيس الهيئة في ذلك الزمان وإن كان قد أبان في فقرتيها الأولى والثالثة طرائق تنفيذ ما نصت عليه المادة (9) من ناحية النهي عن المنكر كمنع الصور والكتب المنافية للآداب ومنع ارتكاب الفواحش وتطفيف الموازين والتبرج والتحرش.. إلخ، إلا أن السابر لنص الفقرة (ثانياً) من فقرات المادة (1) من اللائحة يلفيه قد ظعن عن نص هذه المادة (أي المادة 9) من النظام في توضيح طرائق تنفيذها لحمل الناس على أداء الصلاة، فما ورد في هذه الفقرة - أي الفقرة (ثانياً) - اتى بما لا آصرة له بهذا، ونعني هنا النص القائل بلزوم إقفال المحلات وقت الصلاة، إذ إن نص المادة (9) من النظام لم يقل لا صراحة ولا إشارة بلزوم إقفال المحلات وقت الصلاة، بل قال نصحهم وحمل الناس على أدائها والنهي عن المنكر، أما نص اللائحة الذي نعنيه فقد أمر بالإقفال أي أنه اعتبر إقفال المحلات إجراء يتخذ لتنفيذ الحث على الصلاة، ولا بدع إذا قلنا بأن الإلزام بإقفال المحلات بما يحمل في ثناياه من تهديد ووعيد هو ليس من قبيل الأمر بالمعروف أو حمل الناس على الصلاة أو الإرشاد والنصح باتباع واجبات الدين وهداية الناس، كما أن فتح المحلات وقت الصلاة لا يعد شرعاً بمثابة اقتراف لمنكر أو محرّم أو أنه بدعة منكرة تحرمها الشريعة ومن ثم تطبق عليها الاجراءات التي قضت بها الفقرة (ثالثاً) من المادة (1) من اللائحة في بنودها البالغة (15) بنداً، فما نصت عليه المادة (9) في عجزها هو (النهي عن المنكر والحؤول دون ارتكاب المحرمات واتخاذ الاجراءات لمنعها وتوقيع العقوبات المنصوص عليها في هذا النظام) والظاهر من هذا النص أنه خاص بالنهي عن البدع والمحرمات، فهو الذي يلزم الهيئة باتخاذ الاجراءات لمنعها، ومن ثم لا يجوز تعميم هذا النص وتطبيقه أيضاً على المحلات المفتوحة لأن فتح المحلات ليس بدعة ولا منكراً وليس محرماً بحال، كما أن الذي ينبهم على المرء هو أن رئيس الهيئة قد ذهب شططاً في تفسيره لنص المادة (9) من النظام إذ حمّله ما لا يحتمل بل بدا وكأنه قد لوى عنقه، لأن لائحته تناهت إلى أجواز بعيدة في (غوايتها) عما قضى به صراحة نص المادة (9) من النظام.. فالهيئة أباحت لنفسها في الفقرة (ثانياً) من المادة (1) من اللائحة إنزال العقاب بذلك الذي لا يغلق محله وقت الصلاة رغم عدم وجود نص في نظام الهيئة يقول ذلك، ورغم أن فتح المحلات وقت الصلاة ليس منكراً، لذا فإن الإلزام بالإغلاق ليس من صحيح الشرع، فترك المحلات مفتوحة ليس منكراً كما ذكرنا، فالرسول لم يأمر بالإقفال هذا ولم يأخذ به، فقد ورد في صحيح البخاري: (بأن الصلاة أقيمت والنبي عليه السلام يناجي رجلاً في جانب المسجد فما قام إلى الصلاة حتى قام القوم)، وفقهاء الشريعة في جميع المذاهب لم يقولوا به في متونهم، ولهذا لم يأمر به ولي الأمر نفسه في نظام الهيئة، فهذا النظام لم ينص عليه، أي أن ترك المحلات مفتوحة في أوقات الصلاة وعدم توقف الناس عن العمل هو أمر مباح، وذلك لعدم ورود نص في الشريعة يحرمه اللهم إلا وقت صلاة الجمعة .. لماذا؟.. لأن الأصل في الأشياء هو الإباحة وعدم التحريم وذلك لقوله تعالى: (وقد فصَّل لكم ما حَرَّمَ عليكم) الأنعام آية (119)، (انظر: الزحيلي نظرية الضرورة - ط الرسالة ص482)، كما أن الامام الآمدي عرّف المباح بأنه (ما دلَّ الدليل على خطاب الشارع بالتمييز فيه بين الفعل والترك من غير بدل، أو ما استوى جانباه في عدم الثواب والعقاب) (انظر: الإحكام في أصول الأحكام - ج1 - ص175/176) هذا عن الأصوليين، أما الفقهاء فقد عرّفوا الإباحة بأنه الإذن بإتيان الفعل كيف يشاء الفاعل، وذهب الامام ابن قدامة بأنها ما يقابل التحريم أي أنها تشمل المكروه (انظر: المغني - ج7 - ص13)، وكذلك قالوا بأن ما لم يأت به نص يحرمه فهو مباح، نزيد على هذا أن الإقفال فيه هتك للنصوص التي أوردتها المادة (10) من نظام الهيئة وهو ما سنوضحه لاحقاً في هذا البحث.