مرّ الخطاب التكفيري في السنوات العشر الماضية بفترة انزواء؛ جرّاء الموجة الإرهابية التي اندلعت في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وهي الموجة التي عرّته كما لم يتعرّ من قبل؛ إذ جعلت مفردات الخطاب الأساسية على محك إحداثيات الواقع الدامي، كما جعلتها - في الوقت نفسه - على مشرحة النقد الفكري الذي أخذ على عاتقه مُعاينة هذه الظاهرة الإجرامية التي هددّت القريب قبل البعيد. ولم يكن التهديد مجرد مناورات كلامية، كما لم يكن أفعالا تطال هوامش الأشياء أو مستويات الترف التي يمكن التنازل عنها، بل على العكس، كان تهديدا يمس الوجود على كل المستويات. إن ما تبثه الخطب التي تجاهر بالعدائية ذات المنحى التكفيري، وما تؤسس له بعض المناهج من عداء للمخالف، ومستوى الاستجابة التي تراها بمستوياتها الكارثية ماثلة في جماهير الغوغاء، كل ذلك يكاد يُوهن في عضد التنويريين الذين يريدون التأسيس لخطاب الانفتاح، ومن ثم التأسيس لمواطنية متصالحة، تقوم على شراكة اجتماعية حقيقية تتغيا السلم الاجتماعي لم تكن مفردات الخطاب التكفيري التي انطلق منها، والتي برّر بها مشروعه الإجرامي مجرد هفوات عابرة، تتأسس عليها أفعال ناشزة عن السياق العام، وإنما كانت مفردات عقائدية تأسيسية، تتمحور حولها أطروحة التدين المتطرف منذ أيام الخوارج، وإلى الآن. وهذا يعني أنه كان بكل ذلك العنف الدموي الذي تمثل في القتل والتفجير يتغيا المحافظة - بطريقته الخاصة! - على وجوده: وجوده كخطاب، وعلى أفراده كذوات فاعلة مُهينة في السياق الاجتماعي، ومن بَعْده مُهيمنة في السياق السياسي. هذا يعني أنه خطاب يعي نفسه من خلال الواقع الذي يتفاعل معه؛ مثلما يعي نفسه من خلال التاريخ الذي يتشرعن به، ومن خلاله (= التاريخ) يحاول مواصلة ما يظنه مسيرة الحق في التاريخ، تلك المسيرة التي تتراءى له مُهدّدة بالانفصال عن الواقع، ومن ثم مُهددة بخسارة هذا الواقع الذي لم تتبلور المفردات التكفيرية في غابر الأيام إلا بوصفها وسائل للهيمنة عليه، إذ إن التحكّم في الواقع هو الغاية في نهاية المطاف. لقد اعتمد الخطاب التكفيري إبان المواجهة مع الإرهاب أسلوب المراوغة في الوصل والقطع مع أحداث العنف. كان يحرص على تأكيد أسس الخطاب التكفيري؛ في الوقت الذي كان يُدين فيه الإرهاب العيني. ومن هنا كان فعل الإدانة يتم بحذر؛ بحيث جعلوه يطال الأفعال الإرهابية بوصفها ممارسات بشرية خاطئة؛ دون أن يمس المفردات العقائدية المُشرعة للفعل الإرهابي في تصور الإرهابيين العاملين في الميدان. من قبل أن تتفجر الأحداث الإرهابية في الواقع، كان الخطاب التكفيري قد أسس لها مواقع في الوعي العام بمستويات متباينة. يوم كانت مفردات هذا الخطاب مجرد مسائل نظرية تلهب الوجدان بالحماس الديني، وتغازل العقل الأحادي بمقولات المفاصلة؛ كان هناك استقبال احتفائي بها؛ خاصة وأن الخطاب راهن على مسائل أممية تمس الكرامة الدينية فيما يتجاوز حدود الوطن الواحد، والذي هو مدني على كل حال. ومن هنا بدا الخطاب المتزمت/ التكفيري وكأنه انبعاث تاريخي استثنائي يتحمل فيه الفرد مسؤوليته في الجماعة؛ بقدر ما تتحمل الجماعة مسؤوليتها في الفرد. أي أنه عمّم المأساة، عمّم الجرح النرجسي، وفي الوقت نفسه عمّم وصفات العلاج من خلال علاقة الفرد بالمجموع/ المجتمع. إذن، ربط المجتمعُ بوعي أحيانا، وبلا وعي في أحايين آماله الشفائية/ الإنقاذية بهذا الخطاب الذي راهن على الوجدان أكثر مما راهن على العقل. وقد كانت مراهنته على الوجدان تتم في مستويين: الأول: مستوى استعادة الموروث، الذي هو استعادة للمعروف المألوف، خاصة وأن هذه الاستعادة تشتغل على وعي يهيم على أكثر من مستوى بعبادة الأسلاف، ويقدس الماضي بمحض ماضويته. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فهذا الوعي وعي يرتاب بالغريب والطارئ والأجنبي وكل ما ارتبط بهم من علائق، ويطمئن إلى القريب والنسيب والمستقر والمألوف. وكل هذا يتوفر في التراث، بقدر ما يتوفر الضد منه في تجليات المعاصرة: التجليات الفكرية، والتجليات الواقعية المتمثلة في التقدم المادي، والتي بدت وكأنها تنكأ الجراح النرجسية الغائرة في الأعماق. الثاني: مستوى التضحية في الواقع المتعين. فالواقعة الإرهابية تنطوي - في تمظهرها العيني البسيط - على تضحية بطولية، أو هكذا تبدو في نظر المجتمع الساذج الذي لا يزال مأخوذا بأساطير البطولات الوهمية التي تصبح في نظره مُبجّلة، بل وربما مقدسة؛ حتى ولو كانت تصدر عن حماقات باذخة تقترب بأصحابها من دائرة الجنون. المهم أن الوعي العام تلقّاها بوصفها (تضحية بطولية) توحي ب (نزاهة الفكرة) ومن ثم ب (بصوابيتها) في مجتمع شبه بدائي يخلط بين هذه (= النزاهة) وتلك (= الصوابية)؛ فكانت النتيجة أن هذه الإيحاءات بدت وكأنها تمنح الخطاب التكفيري توهّجا دعائيا قلّما حظيت به الخطابات الأخرى التي كان (تعقّلها) مصدر تبخيسٍ لها في الوعي العام. لقد ترتّب على كل هذا أن الخطاب التكفيري لم يكن يعمل في فراغ، لم يكن يجترح مشروعيته في واقع مناوئ، بل كانت هناك إرادة تصديق تسبق تصدّر الخطاب في صورته النهاية التي تمثلت في خطاب الصحوة التقليدي. ولهذا عندما بدأ الخطاب التكفيري يمراس المراوغة في إدانته للإرهاب، مع احتفاظه بالمقولات الأساسية للخطاب التكفيري؛ مال الوعي الاجتماعي إلى تصديقه، لا لأنه حججه كانت مقنعة، ولا لأنه كان بعيدا عن دوائر الاشتباه، وإنما فقط لأن التوطئة السابقة، وما رافقها من تفاعلات وجدانية، وضعت أرضية لتبرئة المتهم التي تلطخت أفكاره بالدماء. لا شك أن دموية الإرهاب في عامي: 2003م و2004م تحديدا، فتحت المجال لنقد هذا الخطاب التكفيري. وعندما وصلت الأشلاء إلى عتبات البيوت التي كانت تختار لغة الصمت كتكتيك حيادي؛ تغير الوضع كثيرا، وجهر كثيرون بتجريم الإرهاب بعد أن كان بعضهم يمزج التجريم بلغة مراوغة مهادنة، بل ربما قرنه بصورة ما بالجهاد. هكذا تغيّرت اللغة، وصرّح بالإدانة من كان يُغمغِم فيها. وتبقى المشكلة أنه كان مجرد تصريح يدين الفعل، وإن تجاوز أدان الفكرة التي تختبئ وراء الفعل مباشرة؛ مع بقاء الأصول كما هي عليه موضع تعظيم وتقديس! عندما أشرعت الأبواب لنقد الخطاب التكفيري أسهم كلٌّ وفق ما يقتضيه موقعه الفكري والمؤسساتي. حتى التقليدية التي يتكئ الإرهابي التكفيري على مقولاتها أدانت التكفير (بلغة مراوغة، وغير مقنعة، لا لأتباعها ولا لأعادئها)، كما أدانت الفعل الإرهابي المتمثل آنذاك بالقتل والتفجير. وتبقى مشكلة التقليدية أنها حتى في إدانتها للفعل الإرهابي لم تكن تخلو من قلق، ومراوغة، واضطراب في الرؤية. فالتفجير في نظرها مدانٌ؛ لأن الضحايا مسلمون أو معاهدون، أو لأن فساده أكثر من منافعه، وكأننا نتحدث عن مضار ومنافع القهوة أوالشاي في جلسة سَمَرٍ على قارعة الطريق! لم يرضَ التنويريون بمثل هذا النقد التقليدي المراوغ، والذي يُدافع أكثر مما يُهاجم. ولهذا توجّهوا إلى الخطاب التقليدي ذاته، بوصفه المرجع الأعم والأشمل للخطاب التكفيري. وبهذا كان صراعهم على أكثر من جبهة، وفي مواجهة أكثر من خطر. ولا شك أن المجتمع (الذي سبق وأشرت إلى تأثّره بمقولات التقليدية على وجه العموم، كما أشرت إلى مستوى التناغم الوجداني بينه وبين خطاب التكفير) لم يكن - في البداية - يُرحّب بالنقد الذي يمارسه التنويرون، وكان يُحبّذ النقد التقليدي الذي يحتفظ بالمنظومة التقليدية مصونة ضد أي اختراق نقدي؛ لأن علاقته بمفرداتها وبتاريخيتها تبقى علاقة وجدانية (ما قبل عقلية). ولهذا اختار أن يحتفظ بالجثث التكفيرية الاحترابية التي ألِفها وتعشّقها؛ بدل يتعامل معها بما هو أفضل له ولها، حيث كان يجب أن تُوارى في تراب الإدانة والإهمال. أراد التقليديون الاحتفاظ بمنظومتهم كما هي دون أي تغيير حقيقي يمس هويتها. ومن هنا مارسوا نقد الجزئيات الثانوية والهامشية، وكأن هذا هو ما سيدفع غائلة التكفير والتفجير. حاولوا الخروج بنقد يكون (تحلّة قسم!) ففشلوا في ذلك أيما فشل، ذلك لأنه يستحيل عليك أن تنتقد خطاب التبديع والتكفير ودعاوى القتل؛ دون أن تنتقد مجمل الخلفيات العقائدية التي يتأسس عليها هذا التبديع وهذا التكفير، بل دون أن يطال نقدك كثيرا من الرموزا الاعتبارية التي لها مكانتها في الخطاب التقليدي، إذ كيف تنتقد تكفير المخالف وتُدين الدعوة لقتله؛ دون أن تضع الذي تغنّى بقتل المُخالف ونحره عند أصل المنبر يوم عيد الأضحى في خانة التكفيريين الإرهابيين! كان واضحا أن نقد التقليديين للتكفير والإرهاب نقدُ هروبٍ من اللوم، لا نقد مواجهة حقيقية مع الإرهاب. كان ما ينكرونه في كلمة عابرة مراوغة؛ يُؤسسون له في مليون كلمة حاسمة تمارس قصفها الفكري على العقل المجتمعي من كل الاتجاهات. إنهم يُمهّدون للتكفير في آلاف الصفحات في تنظير متسق في سياقه، ثم يقولون في سطر عابر ناشز لا يتسق مع التأسيسي السابق: (تريث) و(لا تستعجل) في التكفير؛ قبل تحقّق الشروط وانتفاء الموانع! حقيقة؛ لم يكن بإمكان التنويريين الوصول إلى المناطق الخطرة في المنظومة التقليدية لأكثر من سبب. بعضهم لم يمتلك بنفسه الجرأة، أي لم يكن يستطيع الوصول إلى ما هو أبعد مما قال؛ حتى لو توفرت له الحماية الكافية. لكن هناك آخرون كانوا يريدون الوصول إلى ما هو أبعد؛ ولكن لا تتوفر لهم الحماية من الناحية المعنوية خصوصا، فضلا عن تعرضهم للمضايقات والاضطهاد في مسارات حياتهم اليومية، إذ يستطيع الخطاب التكفيري بأذرعه الأخطبوطية أن يضر بهم في وظائفهم وفي مجالات تكسبهم. لهذا، ومع استعداد بعضهم للتضحية، إلا أنهم لا يتقدمون بها؛ لأن ما تضخه منابر القداسة، فضلا عن مناهج التعليم، وخاصة في بعض الكليات المتخصصة، كفيل بأن يجعل تضحياتهم تذهب أدراج الرياح. أي أنهم - في المؤدى النهائي - يرونها تضحية دون طائل؛ ما دام أن ما يبنونه بدمائهم وأرواحهم وأرزاقهم على مدى أعوام تكتسحه خطبة جماهيرية حماسية لأحد دعاة الفتنة، مروجي أحكام التكفير، مبرري القتل على خلفية الاختلاف. إن ما تبثه الخطب التي تجاهر بالعدائية ذات المنحى التكفيري، وما تؤسس له بعض المناهج من عداء للمخالف، ومستوى الاستجابة التي تراها بمستوياتها الكارثية ماثلة في جماهير الغوغاء، كل ذلك يكاد يُوهن في عضد التنويريين الذين يريدون التأسيس لخطاب الانفتاح، ومن ثم التأسيس لمواطنية متصالحة، تقوم على شراكة اجتماعية حقيقية تتغيا السلم الاجتماعي. لكن، رغم كل هذه المحبطات وغيرها، لا يزال التنوير يتقدّم بخطى ثابتة، بفضل وسائل الإعلام الفضائي، وأيضا وسائل التواصل الاجتماعي، التي فتحت الأعين والأسماع على ما هو أوسع وأجمل وأفضل رغم كل محاولات التقليديين لإحكام حلقات الانغلاق. ويبقى الرهان الحقيقي، الرهان الأمل، وبعد كل هذه الأجواء المحبطة، على برنامج الابتعاث، الذي إن تواصل على هذه الوتيرة، فسيكون هو صانع الغد الأفضل. هذا ما أدركه التقليديون، وفهموا مآلاته بأوضح مما نفهمها. ولهذا سعوا إلى حربه بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة؛ حتى ليصدق على التقليديين اليوم وصفهم بأنهم كائنات مضطربة تعاني من رهاب الابتعاث.