لم يدر في خلد العنود الزهراني، وهي تشرح لي بحماس كبير تفاصيل ذلك العقد الفريد الذي وضع في مقدمة محلها الصغير في بطن تلك الخيمة الكبيرة التي تصافح الآلاف من الزائرين لمعرض الأسر المنتجة بالرياض في نسخته الخامسة. "دموع جابر"، هو ذلك العقد الغريب الذي لفت انتباهي، وأظنه فعل ذلك مع كل الزائرين والزائرات لمحل تلك الشابة السعودية التي لم تتجاوز ال 23 من عمرها، والتي فضلت أن تترك الجامعة بعد شهر واحد فقط من بداية عامها الأول، لأنها لم تتحمل الانتظار قرابة ال 10ساعات يومياً في أروقة الجامعة من أجل حضور 3 محاضرات فقط. بمجرد أن تخرجت العنود من الثانوية العامة بمعدل جيد، قررت أن تدرس لغات، هذا العالم الواسع الذي سيتيح لها السفر والترحال والتحليق في سماوات هذا الكون الواسع. ذلك هو الأمل الوردي الذي طالما حلمت به تلك الفتاة الصغيرة المولودة في شمال الرياض، ولكنها لم تغرق كثيراً في بحر الأحلام والآمال، حيث قررت وهي في العشرين من عمرها دخول عالم مثير يحقق لها الكثير من طموحاتها ويوفر لها السعادة والمتعة الحقيقية، ولكن قبل كل ذلك، الحياة الكريمة التي تمنحها بعض الاستقرار والهدوء، والتي تتمثل عادة في مصدر دخل جيد يفتح لها آفاقاً حقيقية، بعيداً عن التحليق في فضاءات الخيال والحلم. العنود الزهراني، هذه الفتاة السعودية الواثقة من نفسها كثيراً، والتي لاتستطيع مجاراتها في الحديث، لأنها تحتفظ بمكنوز هائل من المفردات والتجارب والخبرات، رغم أنها في بداية عقدها الثالث، ومتزوجة من شاب سعودي رائع منذ عام فقط. مع العنود، لاتملك إلا أن تطرح الأسئلة، لأنها لن تمنحك الفرصة لمواصلة الكلام، فهي ذكية بما فيه الكفاية، لدرجة أنها قد تجيبك قبل أن تنهي سؤالك. قبل ثلاثة أعوام فقط، شغفت العنود بعالم المشغولات اليدوية والإكسسوارات والعقود والأساور، وكل ما يتعلق بالصناعات التقليدية التي تزخر بها بلادنا، هذه القارة المترامية الأطراف والتي لا مثيل لها في التنوع والتعدد والتمايز، سواء الجغرافي أو الثقافي أو التراثي. السعودية، من شرقها لغربها، ومن جنوبها لشمالها، وكذلك قلبها النابض، منطقة نجد، تملك من المعالم والملامح التراثية والفلكلورية والثقافية، ما لا يوجد في أي مكان آخر في العالم. وجدت العنود في هذا العالم الكبير الذي يتلألأ بالألماس والأحجار الكريمة والزخارف والرسومات، حياتها التي كانت تبحث عنها. العنود، كما تحب أن تصف نفسها، مصممة محترفة للمشغولات والصناعات التراثية. تعشق التراث، ولكن عشقها الأكبر هو تطوير هذا التراث ليصبح أكثر حيوية وقابلية على المنافسة وسط عالم كبير من الإكسسوارات والمشغولات والصناعات، سواء المحلية أوالأجنبية. العنود تجيد الرسم وتشارك في بعض المعارض، وتملك جرأة كبيرة جداً في التعامل مع الصناعات التقليدية، بحيث تضيف إليها الكثير من روح العصر، لأنها - أي العنود - لا تؤمن بفصل توأم الأصالة والحداثة، ولكنها تعتقد جازمة بضرورة تلاقيهما. العنود الزهراني قصة نجاح ملهمة لفتاة سعودية آمنت بقدراتها ومواهبها، وسعت جاهدة لتحقيق أحلامها وطموحاتها. ولم يكن قرار ترك الجامعة سهلا بالنسبة لها أو لأسرتها، ولكنها استطاعت أن تحول هذه العقدة التي لازمتها في بداية مشوارها إلى نقطة تحول كبرى في حياتها. لقد شاركت العنود في الكثير من المعارض والفعاليات التراثية والسياحية، ولكنها مازالت تنتظر الدعم والتشجيع من الجهات المسؤولة عن هذا المجال، وخاصة الهيئة العامة للسياحة والآثار ممثلة ببارع وهو برنامج رائع يهتم بتنشيط وتفعيل الصناعات والحرف التقليدية، والذي يشرف عليه الإنسان الرائع الدكتور جاسر حربش. خلال حديثي الطويل مع العنود، كانت منطلقة بالكلام كما لو كانت تتحدث من ورقة، ولكنها بمجرد أن ذكرت حلمها الكبير في المشاركة في المعارض السعودية التراثية الكبرى كالجنادرية وسوق عكاظ، وكذلك المشاركات السعودية الخارجية التي تبرز الحجم الهائل من التراث والصناعات التقليدية والحرفية التي تزخر بها بلادنا، هنا بدأت وعلى غير عادتها، تتلعثم بالكلمات، بل وتضيع منها العبارات. العنود، لا تفكر فقط في العائدات المالية، رغم أهميتها لكل شاب وشابة سعودية، ولكنها تتوق كثيراً لتمثيل الوطن في المحافل والمشاركات الخارجية. ودّعت العنود، لأتركها تبيع مشغولاتها وتصاميمها الرائعة لعشاق هذه الصناعة التقليدية الرائعة، ولكن قصتها الممتعة حرضتني، بل ألهمتني للكتابة عن قصة نجاح فتاة سعودية، استطاعت أن تحقق بعض أحلامها، لأنها قررت أن تستثمر موهبتها وجرأتها وحيويتها في صنع عالمها، وأن لا تنتظم في ذلك الطابور الطويل الذي يغص بالمنتظرات والحالمات بالوظيفة التي قد تأتي أو لا تأتي. العنود تجربة فتاة سعودية من شمال الرياض، ولكن كل قرية ومدينة سعودية، بها العشرات كالعنود الزهراني، ولكن الظروف والصعوبات والاعتبارات، هي التي قد تؤثر، إما سلباً أو إيجاباً، في بزوغ نجمة، هنا أو هناك في سماء الوطن، كل الوطن. إن الاهتمام بالحرف والمهن التقليدية وتشجيع الصناعات والمشغولات الشعبية، ظاهرة رائعة تؤمن بها المجتمعات المتحضرة التي أدركت مبكراً قيمة التراث كفعل حضاري وإلهام إنساني وتنمية مجتمعية. نحن كسعوديين، نجوب العالم، كل العالم وندس في حقائب العودة، تذكارات ومشغولات وتحفاً تقليدية لكل الشعوب والمجتمعات التي نزورها، ونضعها في واجهة صالاتنا ومجالسنا، ونتباهى بها أمام ضيوفنا، وننسج حولها الحكايات الرائعة. ولكن في المقابل، لا يجد الزائر العربي أو الأجنبي لوطننا الثري بكل المعالم والملامح التراثية والفولكلورية والزخرفية، أي تحفة أو تذكار أو صناعة تقليدية، تذكّره بتراثنا ومنجزاتنا. السعودية،بلاد الحرمين ومهبط الوحي الأمين، ومهد الشريعة الإسلامية الخالدة، ومخزون الحضارات والتاريخ، ومنبع الثراء والفرص، ومصدر التنوع والتعدد، بحاجة ماسة لأن تصل إلى كل العالم، كأمة قوية متحضرة، تعشق الضوء وتكره الظل، وتسهم في تطور وتنمية الحضارة الإنسانية. والإيمان بقيمة التراث الإنساني الذي تمثله الصناعات والمشغولات والتحف التقليدية، أحد أهم عوامل القوة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي تؤهلنا للانضمام لعضوية العالم الأول. مجسم لقلعة تاروت، أو تحفة مزخرفة من جازان، أو عقد من الأحجار الكريمة من نجد، أو خنجر مذهب من نجران، أو باب خشبي قديم من الأحساء، وغيرها من الصناعات والتحف التقليدية السعودية، سيحمل معه حكاية وطن يعشق الفرح والبهجة والانفتاح والتسامح والحوار، ويكره الظلام والتخلف والتزمت.