ليس الإنسان السعودي الوحيد على هذه البسيطة الذي يلتصق بجذوره ويحن للعودة إليها، فهذا السلوك عند كل البشر والحنين للماضي بكل تفاصيله سمة بشرية مألوفة ولا نلتمس لها التبريرات. ومع ثورة التكنولوجيا الحديثة، حدث نوع من الضياع للهويات الثقافية، وفي الوقت نفسه هناك بعض النفوس التي تتوق لرائحة الماضي فتبحث عنه فتجده في سجاد قديم أو أوان من الخوص أو من الخشب أو قطع تراثية شعبية عتيقة يجتر فيها الإنسان الذكريات، لذا لا نستغرب في زمن ثورة التقنية والمعلومات ووجود من يقتني التراثيات الشعبية ومن يصنعها ومن يتاجر فيها ويسوقها حسب حاجة السوق لهذه التراثيات الشعبية نظراً للقبول المتزايد لها عند كافة طبقات المجتمع. ونستعرض من خلال هذه الصفحة المتخصصة في هذا التحقيق هموم وآمال محبي التراثيات من هواة وتجار نرصد فيها رحلتهم مع مقتنيات التراث الشعبي، كما نوضح جهود الهيئة العليا للسياحة في الصدد ومدى الاهتمام به وحرص الكثير من المهتمين بالتراث على وجود جهة تكون مرجعية لهم تدعمهم وتشد من أزرهم للحفاظ على تراثنا. هواية منذ الصغر ففي البداية يتحدث الباحث في مجال التراث الشعبي وعضو دار التراث في مدينة أوشيقر وصاحب متحف شخصي بدار التراث الأستاذ حمد بن عبدالعزيز الضويان عن تجربتة في هواية اقتناء التراثيات ومشاركاته لعرض مقتنياته التراثية الشعبية الغريبة التي تعود لحقب زمنية مختلفة فيقول: كانت البداية في جمع التراثيات والمقتنيات الأثرية عندما ذهبت مع والدي لنقل أغراض وأمتعة جدي من القريه فاستغربت من وجود بعض المقتنيات الغربية والأثرية ضمن تلك الأمتعة ومن هنا حرصت على التوجه فكرة هواية جمع التراثيات الشعبية والأثريات النادرة وبدأت رحلة البحث عن التراث فكنت أجمعها بطريق الشراء أو الإهدء من داخل المملكة أومن دول الخليج، حتى تكونت لدى مجموعة فريدة المقتنيات التراثية وكانت نواة لمتحفي الشخصي في دارالتراث في أوشيقر وبدأت بالمشاركة في المناسبات الوطنية والمحلية لعرض مقنياتي التراثية والأثرية والتعريف ببعض المجموعات النادرة التي أتميز بها عن باقي هواة جمع التراثيات الشعبية. ويضيف الضويان "لقد أشبعت لدي هذه الهواية رغبات عديدة أبرزها ارتباطي بالماضي والتاريخ فهي بمثابة المتنفس لي وليست مصدر رزق أساسي بالنسبة لي فهي مكلفة إلى حد ما، وتحقق بالنسبة لي الإشباع النفسي لهواية عشقتها منذ الصغر وارتبطت بها. نادي لعشاق التراث ويقترح الضويان "أن وجود مظلة ينطوي تحتها هواة التراث الشعبي ومصمي التراثيات السعوديين في منطقة واحدة ومحددة من قبل الهئية العليا للسياحة، تكون قبلة للسواح والوفود والزوار القادمين لمدينة الرياض فإنها حتما ستكون أحد أبرز معالم مدينة الرياض، وخاصة لو منحت لكل شخص مساحة مكانية محددة حسب ما لديه من أنشطة ومقتنيات، طبعا لا يقدم هذا المشروع ارتجالا كما هي حال المهرجانات والمعارض الوقتية المحددة بزمن معين مثل الجنادرية واليوم الوطني بل ينطلق من خلفية مستندة على دراسات وإحصائيات موثقة. كما اعتقد أن وجود (نادي للتراث الشعبي) يلتقي فية محبو وعشاق التراث الشعبي، حتما هذا سيدفع بالاهتمام بالتراث الشعبي السعودي قدما لمافي ذلك من تلاقح في الأفكار وتطوير هذا الرافد السياحي ليصل إلى المأمول والمرجو منه. تجارة مربحة ويتفق مع الهواة تجار التراثيات الشعبية والمصممين فيقول مدير لمسات تراثية عبدالله السهلي: لقد عشقت التراثيات الشعبية وجمعها وتصمميها منذ الصغر وعندما لاحظت الحنين والعودة السريعة من قبل الناس للتراث والجذور والتمسك بكل ما هو تراثي طورت عملي في مجال تصميم التراثيات واقتناء التراثيات إلى عمل ذي صبغة تجارية. ويضيف السهلي: الناس بدأت بشكل كبير العودة للماضي من كافة الطبقات وفي كافة الأماكن فبعض الأشخاص يطلب تصميم أجنحة كاملة تحوي كافة تفاصيل التراث الوطني في دول أوربية تحمل اللمسات التراثية القديمة ليعيش أجواء الماضي في عصر ثورة التكنولوجيا، فقد تختلف رغبات الزبائن في التصميم ولكنها تتفق في كونها ترى البعد عن اللمسات الحديثة وترغب بالمزيد من اللمسات التراثية، فالتصنيع المحلي والتصميم لطلبات الزبائن يشكل الجزء الأكبر من نشاطنا، بالإظافة إلى استيراد بعض التراثيات المطلوبة من بعض الدول العربية التي تصنع فيها وكانت مستعملة لدينا في حقب زمنية ماضية. العمالة زاحمت السعوديين في سوق الزل ويتفق عبدالله السهلي مع الباحث الضويان في ضرورة إيجاد موقع مخصص لهواة ومصممي وتجار التراثيات على غرار (سوق الزل) فيقول السهلي: لم يعد يستوعب سوق الزل متطلبات محب التراثيات رغم الجهود الرائعة التي تبذلها هيئة تطوير مدينة الرياض والهيئة العليا للسياحة في هذا الصدد فالمشكلة تكمن في مزاحمة الوافد للسعودي في هذا السوق، ففي كل دول العالم من يصنع التراثيات ويقوم بتصميمها أبناء الوطن ولا يستطيع الوافد مهما بلغت حرفيتة من الإتقان مثل السعودي الذي يضفي لمستة الخاصة التي تبرز هويتة الوطنية. ويضيف السهلي: أرى أنه أصبح ضرورة ملحة وجود منطقة ثابتة يلتقي فيها الحرفيين ومحبي التراث بإنتاجاتهم في موقع معروف ومتاح الوصول إلية من قبل سكان مدينة الرياض وتحت إشراف الهيئة لعليا للسياحة تحدد معايير وضوابطه، ويعرض فيه السعوديين إنتاجهم دون منافسة من العمالة الوافدة، يكون مرجعية وموطن للتراثيين. عدد الحرفيين في تزايد وحول هذه المطالبات بتوفير مواقع ثابتة للحرفيين على غرار سوق الزل التاريخي يجيب عن هذه التساؤلات المهندس سعيد بن عوض القحطاني مدير مشروع الحرف والصناعات اليدوية بالهيئة العليا للسياحة فيقول: إن الهيئة العليا للسياحة قامت بإيجاد مجمعات دائمة للحرفيين تضم شتاتهم ويتمكنوا من مزاولة حرفهم بصورة دائمة، وتكون من المعالم الثقافية السياحية في مناطق المملكة، حيث تم إيجاد هذه المجمعات أو المراكز بمشاركة وزارة الشؤون البلدية والقروية ممثلة في أمانات مناطق الباحة، والقصيم من تهيئة مجمعات للحرفيين في كل من الباحة، وبريدة، وأصبح الحرفيون حاليا يزاولون عملهم بصورة دائمة، والجميل في الأمر أن الحرفيين تزايد عددهم للعمل في هذه المراكز لما توفرة لهم من بيئة مناسبة للعمل بين أقرانهم، ولما يرتادها من سواح وزوار لشراء المنتجات الحرفية، كما يوجد حاليا مركز للنساء الحرفيات بمركز الملك عبدالعزيز التاريخي بالمربع وسط الرياض، وجار التنسيق على إقامة مراكز مماثلة في مناطق المملكة الأخرى. ويوضح المهندس القحطاني: بأن الهيئة العليا للسياحة بادرت منذ تأسيسها عام 2001م بالتنسيق مع الجهات ذات العلاقة بالحرف والصناعات اليدوية في المملكة، وهي بالإضافة للهيئة: وزارة المالية، وزارة التجارة والصناعة، وزارة الاقتصاد والتخطيط، وزارة العمل وزارة الشؤون الاجتماعية، والمؤسسة العامة للتعليم الفني والتدريب المهني، والهيئة العامة للاستثمار، ومجلس الغرف التجارية الصناعية السعودية، بإعداد الإستراتيجية الوطنية لتنمية الحرف والصناعات التقليدية في المملكة بمشاركة فريق عمل من الخبراء الدوليين في مجال الاقتصاد والإحصاء والاجتماع والصناعات التقليدية إضافة إلى خبراء من بعض الجامعات السعودية، وتضم الإستراتيجية حوالي 45مجموعة من الحرف والصناعات التقليدية يتفرع منها قائمة طويلة من المنتجات اليدوية حيث تشمل صناعة السبح والأحجار الكريمة، المنتجات الفخارية، الخوصيات، الجلديات، الفضيات، الأسلحة التقليدية، المنتجات الحديدية لأغراض الزراعة والنحاسيات والفضيات، وغزل النسيج اليدوي، وصناعة البشوت، والقياطين بأنواعها والأزياء الشعبية، وصناعة الشباك والأقفاص والمزهريات والدلال والأحذية التقليدية، القطران والحلويات الشعبية، والكراسي الشعبية، والصناعات المرتبطة بمواد البناء التقليدية. ويستطرد القحطاني قائلاً إنه قد تم الانتهاء من إعداد الإستراتيجية، وتم إقرارها من مجلس إدارة الهيئة العليا للسياحة، ورفعت للمقام السامي الكريم لطلب إقرارها، ويجري حاليا مناقشتها في هيئة الخبراء، ومن المتوقع أن يتم إقرارها قريبا ومن ثم البدء في تنفيذ توصياتها التي تتمحور إيجاد جهة مسؤلة عن التعامل مع كافة القضايا التي تواجه قطاع الحرف والصناعات اليدوية في المملكة العربية السعودية، وقام فريق العمل المكلف من الجهات ذات العلاقة بالإطلاع على أهم الوثائق المتاحة حول النشاط الحرفي في العديد من الدول، والتواصل مع خبراء منظمة اليونسكو واستطلاع الخبرة العالمية ميدانياً بزيارة تركيا والمغرب وتونس "واعتمد إعداد الإستراتيجية على مجموعة من المبادئ الأساسية أهمها ضرورة الاستفادة من الخامات المحلية المتوفرة بصورة عامة في مختلف مناطق المملكة في إيجاد مشاريع اقتصادية اجتماعية تساهم في تنويع مصادر الدخل المحلي وإيجاد فرص عمل لفئات المجتمع من الرجال والسيدات والنشء في مختلف المناطق الحضرية والريفية والبادية بالمملكة". ويبين القحطاني أن الدراسات التي قامت بها الهيئة العليا للسياحة أظهرت أن المملكة طوال الثلاثين سنة الماضية شهدت تحولات اقتصادية أدت إلى "تلاشي نظام الحرفة كما أنها أجبرت الحرفيين إلى الانخراط في العمل كموظفين لدى المؤسسات الحكومية والخاصة، ولم يبق حاليا إلا القليل من الممارسين للحرف". مما يعتبر تهديداً ل "الهوية الثقافية"، وإهداراً لجزء كبير من فرص العمل، بمعنى آخر فأن الطفرة النفطية على الرغم من إيجابياتها إلا أن تأثيرها كان سلبيا على مجتمع الحرفيين بالمملكة "فهجر معظمهم مزاولة الحرف إلا في المناسبات الوطنية كمهرجان الجنادرية". لذلك تعمل الهيئة على إيجاد هذه المراكز لأهمية تنمية الحرف من الناحية الاقتصادية بالدرجة الأولى إضافة إلى أهميتها الثقافية والاجتماعية. وأصبح من المسلّم به على المستوى العالمي ارتباط قطاع الحرف والصناعات اليدوية بقطاع السياحة "ذلك أن السائح، كيفما كان نوع السياحة التي يمارسها - وسواء كانت إقامته طويلة أو محدودة قلما يغادر المكان الذي يزوره دون أن يحمل معه تذكاراً". وفي المملكة تعتبر مواسم الحج والعمرة مثالاً على ذلك "فالحاج أو الزائر أو المعتمر يحرص خلال تواجده في المملكة على شراء منتجات حرفية لتوزيعها هدايا في بلده". وفي مجال التمويل قامت الهيئة بتوقيع مذكرة تفاهم مع البنك السعودي للتسليف والادخار لغرض تمويل العاملين بالحرف والصناعات اليدوية بضوابط مناسبة، وأن يتم تطوير الحرف اليدوية بما يتوافق مع خطط التنمية الخمسية، "لأن الحرف تعتبر نموذجاً مميزاً لمعالجة الفقر، ومحققاً للتنمية الإقليمية المتوازنة، والإسهام في إخراج المجتمع من دائرة الاستهلاك إلى الإنتاج". كما يرى القحطاني: أنه حتى في مجال الاستثمار في الحرف والصناعات التقليدية فإنه يوجد "عدد من الشركات والمؤسسات التي تستثمر في قطاع الحرف والصناعات اليدوية،". وعن الاستثمار الأجنبي في قطاع الحرف والصناعات اليدوية بالمملكة فإن "هذا النوع من الاستثمار مهم، وينبغي أن يتم وفق شروط معينة ودقيقة، تلزم المستثمر باحترام المصالح المحلية والعادات والتقاليد المتوارثة في هذه الحرف، وقد ساعد نظام الاستثمار الجديد على دخول مستثمرين أجانب لهذا القطاع، مثل المصنع الذي أفتتح لإنتاج أقمشة بيوت الشعر برأس مال مشترك، نظراً لوجود طلب كبير على هذا المنتج في السوق السعودي. إلا أنه يلزم أخذ الحيطة والحذر من توسع الاستثمار الأجنبي في قطاع الحرف في ظل عدم وجود جهاز معني بالحرف يضع ضوابط لهذا الاستثمار حتى لا يؤثر ذلك في الهوية الثقافية للحرف السعودية التي تتميز بأصالتها منذ قديم الأزمان.