وُصِفَ أبو زيد السروجي، الشخصية الأساسية في مقامات الحريري، بأنه "تاج الغرباء". وفاق الاهتمام به الاهتمام بنظيره أبي الفتح الإسكندري في مقامات بديع الزمان الهمذاني، وممن شغل بالأمر ياقوت الحموي الذي دأب على إدراج كافة الأخبار التي تؤكد العلاقة بين أبي زيد الحقيقي وأبي زيد المتخيّل، ففي خبر مسند إلى أبي الفضل جابر بن زهير، يقول فيه "كنت عند أبي محمد القاسم ابن الحريري البصري بالمشان أقرأ عليه المقامات، فبلغه أن صاحبه أبا زيد المطهّر بن سلام البصري الذي عمل المقامات عنه قد شرب مسكرا، فكتب إليه: أبا زيد اعلم أن من شرب الطلا تدنّس فافهم سرّ قولي المهذبِ ومن قبلُ سُمّيتَ المطهّرَ والفتى يُصدِّق بالأفعال تَسميةَ الأبِ فلا تَحسُها كيما تكون مطهَّرا وإلا فَغيّر ذلك الاسمَ واشْربِ فلما بلغته الأبيات أقبل حافيا إلى الشيخ أبي محمد وبيده مصحف، فأقسم به ألاّ يعود إلى شرب مسكر. فقال له الشيخ: ولا تُحاضِرْ مَنْ يشرب". أصبح الحريري رقيبا على نموذجه السردي، فلا يريد أن تتدنّس مقاماته لأن بطلها تعاطى خمرة، فخانَ ثقة الأب الذي ينتظر صفاء أفعال ابنه، وخيّره بين التخلّي عن اسمه المطهّر إذا كان قرّر المضي في سلوكه الشائن، فتصبح البراءة منه واجبة، أو الاحتفاظ بالاسم الطاهر على أن يهجر تلك الرذائل، ولا يقترف الذنوب المهلكة، فتصبح نسبتُه إليه ممكنة. يريد الحريري أن يرى بطله منزها عن العيوب، مبرّأ من الآثام، فيحرص على طهارته. على أن مقام أبي زيد السروجي في البصرة جعله يكتسب هويته البصرية، فصار يلقّب بها، وتوارت سروج، فيا لهول المفارقة، ففيما كان الحريري يبعث بأبي زيد السروجي إلى شتّى أرجاء دار الإسلام في مقاماته، كانت النسخة البصرية منه تحتسي الخمرة على مرمى حجر من بيت المؤلف. ثم ينبغي أيضا أن نستعين بابن خلكان الذي تتبع انبثاق المقامات على لسان أبي القاسم عبدالله ابن الحريري" كان أبي جالسا في مسجده ببني حرام فدخل شيخ ذو طمرين عليه أهبة السفر رثّ الحال فصيح الكلام حسن العبارة، فسألته الجماعة: من أين الشيخ? فقال: من سروج، فاستخبروه عن كنيته فقال: أبو زيد، فعمل أبي المقامة المعروفة بالحرامية، وهي الثامنة والأربعون، وعزاها إلى أبي زيد المذكور". لكن ابن خلكان يلوذ بالقفطي الذي قدم رواية مختلفة، فقد ذكر أن أبا زيد "اسمه المطهر بن سلار، كان بصريا نحويا لغويا، صحب الحريري، واشتغل عليه بالبصرة وتخرج به". وسرعان ما أصبح هذا الجدل ركنا أساسيا في كل حديث يدور حول مقامات الحريري، فلم يقع فحص طبيعتها التخيلية، والتمثيلية، إنما انصب الاهتمام على شخصية أبي زيد. فالكتّاب القدماء يبحثون عن براهين كاملة للمصداقية، وحينما تغيب عنهم يتّهمون المؤلفين بالخداع والكذب، فقد استاء ابن الخشاب من تصريح الحريري في خطبة مقاماته بأنه نظمها "في سلك الإفادات وسلكها مسلك الموضوعات عن العجماوات والجمادات، ولم يسمع بمن نبا سمعه عن تلك الحكايات أو أتمّ رواتها في وقت من الأوقات" فذلك أوقعه في مغالطة لا تغتفر؛ لأن ذلك الضرب من الأمثال لا يشبه ما أخذ فيه من ذكر الحارث بن همام وأبي زيد السروجي، فما ذكر في كتاب كليلة ودمنة أو حكايات السندباذ غايته "وضع الأمثال لتفيد الحزم والتيقظ وتنبه على مواضع الزلل في الرأي لأخي الغفلة وتعطي التجربة لذي العزّة، ولذلك وضعت الأمثال" فلا يراد بها في كليلة ودمنة إلا العبر، إذ لا يلتبس فيها صدق بكذب، والخروج فيها عن المألوف ظاهر للجميع" لأن الأسد لا يخاطب الثعلب على الحقيقة، ولا النمر الشجرة، ولا القرد السلحفاة، ولا الحمام الشاة" فإذا "أخبر به مخبر لم يلتبس بصدقٍ فعُلم المقصود به بديهة". قادت هذه المقدمةُ المنطقية ابنَ الخشاب إلى مقارنة شخصيات كليلة ودمنة بشخصيات المقامات، فقال بأن "الإخبار عن الحارث والسروجي ممكن أن يكون مثله، وإن لم يكن ذلك فهو كذب لا محالة يلتبس مثله بالصدق إذ غير مستحيل في العرف والعادة أن يوجد في الناس داهية يكنّى أبا زيد، ويكون من سروج، ويكون من البلاغة والخلاص والتصرّف في أبواب الحيل في المتعارف ما حكى الحارث بن همام عنه، وكذلك وجود الحارث واتفاق اجتماعه مع أبي زيد على ما وصف ابن الحريري فهذا يشبه الصدق ويدخل تحت إنكاره، فهو كذب لأن واضعه لا يدّعي صحته، والأول يشبه الصدق من وجهٍ، فأمره غير مخيّل، وقد بان أنه غالط في التمثيل أو مغالط". كان تخريج ابن الخشاب بعدم احتمال صدق وجود أبي زيد السروجي والحارث بن همام مثار احتجاج ابن بري الذي قال "لا معنى لإنكار ابن الخشاب على الحريري في ذكر أبي زيد السروجي والحارث بن همام فإن أبا زيد السروجي كان موجودا". ثم جاء "حاجي خليفة" معتمدا على السيوطي فخفف من وقائع اللقاء المفترض بين المؤلف ونموذجه، وأجرى فيه تحريفا ليكون قائما على السمع، إذ لم يلتقِ الحريريّ بطله الافتراضيّ، إنما بلغه مروره بالمسجد الذي يرتاده في البصرة، مسجد بني حرام، وأنه أثار الإعجاب بفصاحته، وبلاغته، وغرابة حكاياته، فروى للحريري بعض الفضلاء ما حدث، فأنشأ المقامة الحرامية ثم أقام عليها سائر مقاماته. ثم ظهرت الحكاية التفسيرية، فلكي يُعترف بالمقامة الأولى التي دشّن بها الحريريّ عمله فلا بدّ من سند وتوثيق، إذ لا يجوز الأخذ بفكرة الابتكار، ولا محاكاة نموذج فني جاء به بديع الزمان الهمذاني من قبل، فهذا التخريج يؤذي الباحثين عن الصدق الأخلاقيّ في السرد الذين يرتعدون من البدعة التخيّليّة، لكنه ينقض اعتراف الحريريّ بأنه أنشأ مقاماته محاكيًا أحد أسلافه، فقد جزم، في مقدمة كتابه، بأنه تلقّى طلبًا ممّن "إشارته حُكم، وطاعته غُنم" بأن ينشئ مقامات يتلو فيها "تلو البديع"، فتردّد في الخوض بأمر صعب "فيه يَحار الفهمُ، ويُفرط الوهمُ" لكنه لم يُعفَ، ولم تقبل حجّته، فلبّى الدعوة "تلبية المطيع". وبذل في مطاوعة ذلك "جهد المستطيع"، فأنشأ خمسين مقامة. كان الحريريّ متشبّعًا بالتقاليد السرديّة التي رسّخها بديع الزمان الهمذاني من قبل في البناء والموضوع والصيغة، فدار في فلكها، وبالغ في الإجادة، وزاد في التصنّع، وقصد إظهار مهارته في السبك، ومن الصعب إلغاء كلّ ذلك، والأخذ بروايات متضاربة لا تقدّم تفسيرًا ثقافيا لظهور مقاماته، فالنموّ الداخلي لنوع المقامة استكمل شرطه الفني، وصار في حكم المؤكد بأن الحريري حاكى نموذجا استقرّت ملامحه في الأدب، وشاع أمره قبل أكثر من قرن، فتتوارى قيمة الأخبار القائلة إنه انتهب أخبار شخص مرّ عرضا في البصرة، فتلك مما أثارها عليه حسّاده في بغداد وسواها، وجرى تضخيمها، وإعادة تركيبها، وهي بمجموعها لا تثبت في تفسير موضوعها.