تبدو لنا مقدمة كتاب «مقامات الحريري» طويلة تكاد تعدل في طولها العديد من المقامات التي رصع بها الكتاب واذا كان لي مقدما أن أسمح لنفسي بوضع عنوان لهذه المقدمة يعلو النص ويضيء طريق القراءة كما يقول «دريد» فإنني أضع عنوان (المقامة التبريرية) وأعدها من المقامات القليلة التي لا يشير عنوانها الى فضاءات مكانية مثل (المقامة الصنعانية..والكوفية والدمشقية والبغدادية والمغربية..وغيرها). الحريري فهم عصره جيدا وعرف كنه قرائه وتعدد رؤاهم ..وتقلبه بين الخوف والرجاء والاقدام والتقهقر لون مقدمته بشتى الألوان الحريري في مقدمته أو مقامته تلك يفتح أفق دهشة، وأفق قراءة حذرة ومتأنية ومشتتة فهو هنا يروي على لسانه لا على لسان (الحارث بن همام) الذي يروي المقامات، إننا هنا أمام الحريري المبدع والصانع للمقامات بأشخاصها وأحداثها لذا فمساحة الحقيقة هنا أوسع, ومساحة التلقي أضيق فليس هناك تعدد في الرواة، فالحريري يضع فمه لصق آذاننا ليقول وهو ينتفض هلعا من(غمر جاهل أو ذي غمر متجاهل) أي غير المجرب والحقود ليس هما فقط ولكن بل يخشى الحريري على نفسه من ابداعه رغم حسن نيته الذي أوضح عنه مرارا وتكرارا ورغم توسله بالله ورسوله وتمسكه بتعاليم الدين. إنه يخشى أن يكون كالباحث عن حتفه بظلفه، فينقل لنا هنا نبض عصره وموقع الكاتب والمبدع فيه. وأعتقد أن الحريري الذي نتقمصه احيانا تردد طويلا ووقع في حيرة كبيرة بين أن يكتب أو لا يكتب. -أن يكتب وهو العالم الأديب الذي كني بكنية العلماء ويحمل امانة الكتابة ويشهد الأدب يركد ريحه وتخبو مصابيحه. - أن لا يكتب خوفا على نفسه. وهو وإن كان قد اختار طريق الكتابة إنما خاطر وعليه ان يتحمل تبعة اختياره . ( وبالله أعتضد فيما أعتمد واعتصم مما يصم، وأسترشد الى ما يرشد فما المفزع الا اليه وما الاستعانة الا به. الحريري هنا ينقل لنا قلق عصره وطابعه وظروف انحطاطه ويخشى تأويل قوله ويعمد الى التقليل من ذاته ليضخم ذات الآخر الذي يخشاه ناقدا كان أوغيره. الرجل في مقدمة مقاماته يغير كلامه متنقلا من تبرير الى تبرير ومن توسل الى توسل وتتلون ذاته بكل أطياف الخوف والحيرة( واستقلت من هذا العالم الذي فيه يحار الفهم ويفرط الوهم ..) إنه هنا يشبه أبو زيد السرجي الذي ليس بالامكان تحديد هويته لأن كل ما يقوم به مبني على التلون في صور مختلفة. انه يقول لنا في موضع إنه قدم لنا في المقامات، ملح الأدب ونوادره ورقيق اللفظ وجزله وغرر البيان ودرره. ثم يعود ليقول (أرجو أن لا أكون في هذا الهذر الذي أوردته والمورد الذي توردته..) إن الحريري فهم عصره جيدا وعرف كنه قرائه وتعدد رؤاهم ..وتقلبه بين الخوف والرجاء والاقدام والتقهقر لون مقدمته بشتى الألوان وهو وإن قرر في النهاية ان يكتب مستعينا بالله، ويتوب عن خوفه كما تاب أبو زيد السروجي في آخر المقامات( البصرية )عن كذبه واحتياله ليقول رأيه في عصره بما يحويه من أماكن وبشر انما يؤكد انه يعيش بداخلنا.