يحلم التلفزيون السعودي باستعادة مكانته السابقة في قلوب السعوديين؛ عندما كان الحبيب الأول والوحيد الذي لا قبله ولا بعده، لكن حلمه يبدو مستحيلاً بسبب مزاحمة القنوات الخاصة التي احتلت موقعه وأزاحته نحو مراتب متأخرة نوعاً ما. فما الذي عليه أن يفعله أكثر مما يفعله الآن لكي يعود إلى موقعه السابق؟. على المستوى العملي يُنتج التلفزيون السعودي من البرامج والمسلسلات ومباريات كرة القدم أكثر بكثير مما تنتجه بقية القنوات الخاصة مجتمعة. إنه ورشة عمل هائلة تتحرك فيها كوادر سعودية في مختلف التخصصات لإنتاج مواد تلفزيونية لسبع أو ثماني قنوات في وقت واحد، وهذا القدر من الإنتاج، بهذه الضخامة والشمول والتنوع، لا يفعله أي تلفزيون عربي آخر سوى التلفزيون المصري. إذن من حيث الإنتاج والصنع والإبداع، التلفزيون السعودي يقوم بدوره على أكمل وجه، بل يتفوق على كثير من القنوات الخاصة والحكومية، ومشكلته ليست في الإنتاج بل في مرحلة «ما بعد» الإنتاج، وأعني بها مرحلة العرض على الشاشة وما يرتبط بها من جوانب تقنية. وهنا تحديداً تكمن «مأساة» التلفزيون السعودي التي قللت من جمهوره على مدى أعوام طويلة. الملاحظات في هذا الجانب عديدة؛ أولها أن شاشة التلفزيون السعودي لا تلتزم بتوقيت بث ثابت لبرامجها، ولا تحترم وقت المشاهد، فيمكن أن تعرض برنامجا ما متأخراً خمس دقائق أو متقدماً عشر دقائق، ويمكن إلغاء البرنامج أحياناً، كما لا توجد سياسة واضحة لتوقيت ظهور الإعلان التجاري، فمرة تجده يأتي بين البرامج كفقرة مستقلة، ومرة داخل البرنامج، دون أن يكون له أي وقت ثابت محدد يعرفه المشاهد كما هو معمول به في القنوات الخاصة. في رمضان الماضي مثلاً؛ أعلنت القناة الأولى أن وقت عرض مسلسل «هشتقة» هو الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، وإلى أن انتهى رمضان لم تلتزم القناة بهذا الموعد أبداً، حيث يعرض المسلسل إما متقدماً ربع ساعة أو متأخراً مثلها، أما الإعلانات التجارية فهي تأتي كيفما اتفق ودون سابق إنذار، مرة قبل تتر المسلسل، ومرة بعد التتر مباشرة، ومرة ثالثة في وسط المسلسل ودون فواصل كأنها جزء من العمل. هذه التفاصيل البسيطة مهمة جداً، وكنا كمشاهدين نتجاوز عنها ونتحملها قبل عشرين سنة لأنه لا يوجد لدينا سوى القناتين الأولى والثانية، فإذا تأخر البرنامج انتظرناه مجبرين «والشكوى لله»، أما اليوم مع تعدد الخيارات أمام المشاهد فإن أي إخلال بجدولة البرامج وتوقيتها يعني بالضرورة هرب المشاهد نحو قناة أخرى. الهيكلة البرامجية وضبطها وإدارتها تعتبر من الأمور المقدسة لأي قناة تحترم نفسها وتخطط للمنافسة. انظر للقنوات الخاصة المتسيدة للمشهد ستجد أنها تعتمد فكرة «الساعة التلفزيونية» في تقسيم برامجها، فعلى رأس كل ساعة يبدأ برنامج جديد، وبعد ربع ساعة فاصل إعلاني، وهكذا، جدولة وتبويب واضح ومريح للمشاهد يجعله قادراً على التحكم في وقته الخاص، فهو يعلم أنه في تمام الثامنة مساء سيرى داود الشريان في MBC وعلي العلياني في روتانا خليجية، كما سيشاهد برنامج «كورة» في تمام الحادية عشرة والنصف مساء، في موعد ثابت لا يتغير مهما كانت الظروف. الملاحظة الثانية على «شاشة» التلفزيون السعودي هي الجوانب التقنية من صوت وصورة، ولنبدأ مع «الإضاءة» السيئة لكثير من برامج التلفزيون، فمرة يكون الأستوديو مظلماً لا تكاد ترى وجوه المتحدثين، ومرة تجد ظلاً صارخاً على «ثوب» أحد الضيوف، وفي العرف التلفزيوني مجرد وجود «ظل» في الأستوديو يعتبر خطأ فادحاً. أما بالنسبة للصوت فحدث ولا حرج، ويكفي أن تُقلّب بين القنوات السعودية لترى الاختلاف في منسوب الصوت بين قناة وأخرى، بعضها مرتفع إلى حد الصخب، وبعضها منخفض إلى حد الهمس، وهذا عيب تقني كبير، أضف له اختلاف أبعاد الشاشة بالنسبة لكل قناة، خاصة القنوات الرياضية، فبعضها يعتمد مقاس 3:4 وبعضها 9:16، ولهذا تجد شعار إحدى القنوات متوسطاً الشاشة، وشعار القناة الأخرى في أقصى الزاوية اليمنى لا يظهر منه سوى نصفه. لو اهتم التلفزيون السعودي بهذه الجوانب الهيكلية والتقنية ووضع إدارة لمتابعة وضبط جودة العرض، ومعايير تقنية موحدة لجميع قنواته، فيمكنه حينها استعادة ثقة المشاهد السعودي، كما سيستعيد ثقة المُعلن الذي يبحث قبل كل شيء عن الاحترافية التي تضمن بث إعلانه في وقت محدد وثابت.