مُهمة شرح أي نص أدبي تظل بالرغم من أهميتها الكبيرة مهمة شاقة وشائكة قلما يتم إنجازها على الوجه المطلوب والمقنع، سواء بالنسبة للشارح نفسه أو بالنسبة للمتلقي، ويتحدث الدكتور عبد الفتاح كيليطو عن أهمية دور الشارح قائلاً: "لو تُرك القارئ لوحده، فإنه يتيه في تشابك علامات تستعصي على الفهم. الشارح يعلم هذا، فترتفع مكانة وظيفته. فهو أكثر من دليل، إنه ضربٌ من كاهن، ووسيط لا غنى عنه بين القارئ والنص". دور الوساطة الذي يضطلع الشارح القيام به لهداية القارئ وتسهيل وصول النص إليه بصورة جيدة دور يتطلب امتلاك مهارات متنوعة والقيام بإجراءات عديدة تكفل إضاءة مواطن الغموض في النص المشروح وتقريبه من الأفهام، والشارح الجيد لا يكتفي بسطح النص وبتوضيح الدلالة المعجمية لبعض الألفاظ فحسب، بل يقوم بقراءته قراءة عميقة وتناوله من جوانب مُختلفة، ويمكن الاطلاع على دراسة الدكتور أحمد الودرني (شرح الشعر عند العرب) للتعرف على حجم التنوع في الإجراءات التي تتطلبها عملية شرح النص الشعري تحديدًا، وفي تلك الدراسة النظرية التطبيقية يتحدث الودرني عن العديد من المسائل الدقيقة في عملية الشرح ويُميز بين ضربين منه:"هما الشرح من الداخل، ويضم: المستوى الفني ونسيجه الصرف والمعجم والصوت والإيقاع والنحو والبلاغة والمستوى الدلالي وأساسه معاني القول ومقاصده، والشرح من الخارج وينهض على الاستشهاد بنصوص متنوعة كالأشعار والأمثال والقرآن والحديث". في كثير من الدواوين والمجاميع الشعرية الخاصة بالشعر الشعبي القديم لا نجد كبير عناية بمسألة الشرح، إذ ينصب اهتمام الجامع أو المحقق غالباً على إخراج القصائد وإتاحتها للقراء، مع اتجاه ضعيف لشرح بعض المفردات بشكل انتقائي لا يُستغرب فيه أن تُوضح دلالات ألفاظ واضحة وما زالت موجودة ومعروفة مع إهمال توضيح معاني ألفاظ ومصطلحات غامضة وغير شائعة في زمننا هذا، والواقع أن هناك العديد من الظواهر والسمات المتعلقة بالشرح التي يمكن أن يلاحظها المطلع على دواوين الشعراء القدماء أو مجاميع الشعر الشعبي، لكن الذي قصدت إليه من كتابة هذه السطور هو إيراد نماذج مختارة نستطيع من خلالها تكوين فكرة بسيطة عن اتجاهات جامعي الدواوين والمجاميع الشعرية ومدى وعيهم بأهمية الشرح. الظاهري القاضي الوعي المبكر بأهمية عملية الشرح نقابله لدى خالد الفرج رحمه الله (ت 1374ه) صاحب كتاب (ديوان النبط) الذي صدر في جزأين كان أولهما في عام 1371ه (1952م)، إذ يضع على غلاف الكتاب في جزأيه عبارة "رتبه وفسر بعض ألفاظه"، ويُعلل في مقدمة الأول شرحه لبعض الألفاظ الواضحة بمراعاته للبُعد الجغرافي أو المكاني الذي يتعلق بالقارئ العربي أو "الأجنبي"، يقول الفرج: "وقد يستغرب كثير من اخواننا أدباء نجد تفسيري لبعض الألفاظ الشائعة (كتفسير الماء بالماء) لأنني لم أفسرها إلا لإخواننا العرب الأباعد من أهل الأمصار أو الباحثين من الأجانب ففسرت كل كلمة أعتقد أنها غامضة على غيرنا أو هي من المصطلحات الخاصة"، أما الجزء الثاني من (ديوان النبط) فقد شهد ضمورًا كبيرًا في مسألة الشرح علّله الفرج بأسباب من أهمها كما ذكر في مقدمته: ضيق الوقت وكثرة المشاغل وزيادة حجم مادة هذا الجزء عن سابقة، وأكّد مرة أخرى على أن "أهل نجد" يفهمون هذا الشعر بطبيعتهم ولا يحتاجون إلى شرح، وألمح إلى أن تخليه عن التوسع في الشرح ناتج عن خيبة أمله من القارئ العربي الذي استهدفه شرح الجزء الأول، بل وصرّح بوضوح أنه لم يوفق لتحقيق الهدف المرجو من شرحه وتعرض لنقد وصفه بأنه خارج عن النزاهة من قِبل بعض الباحثين العرب ..! بعد (ديوان النبط) من النادر أن تقابل في الدواوين أو المجاميع التي تختص بجمع الشعر الشعبي إشارات نظرية واضحة للمنهجية المتبعة في عملية الشرح، لكن ثمة استثناءات قليلة يكون فيها الجامع أو المصنف على وعي بمسؤوليته عن شرح النص الشعري، ففي مقدمة تحقيقه ل (ديوان أمير الشعر الغزلي محسن الهزاني) يُشير الباحث والناقد إبراهيم الخالدي إلى قيامه بجهد محدود لشرح بعض المفردات الغريبة ويُضيف عبارة توحي بقلقه أو عدم ثقته بمدى إمكانية كسب رضا القراء بذلك الجهد، يقول الخالدي: "... كما شرحت في الهوامش بعض الكلمات الغريبة (وإن لم أوفق لشرحها كلها)". وفي عمل لاحق لتحقيق ديوان الهزاني وهو (المعلقات النبطية) نجد بأن الخالدي يتخلى عن مسؤولية الشرح بشكل تام كما فعل الفرج من قبل، ويُقدمُ تبريرًا مُماثلاً وهو الاحتراز من زيادة حجم الكتاب، ويُحيل القارئ إلى جهود الشارحين السابقين له استنادًا إلى شهرة القصائد التي تضمنها الكتاب، يقول الخالدي في مقدمة (المعلقات النبطية): "وقد ابتعدت عن تفسير المفردات .... لأني وجدت أن ذلك سيزيد حجم الكتاب إلى الضعف ناهيك عن أن شهرة هذه القصائد كفيلة بأن تجعل من يرغب بالبحث عن تفسير ما أن يجده في جهود من سبقوني إلى نشرها". العميمي الخالدي من الدواوين الشعرية القليلة التي يتوازى فيها الوعي النظري لعملية الشرح مع التطبيق العملي له ديوان (شاعر نجد الكبير محمد العبدالله القاضي) الذي حققه وشرحه الأستاذ عبدالعزيز القاضي، وفي مقدمته يوضح القاضي اتجاهه نحو التوسع في الشرح، ويتحدث عن الصعوبات التي واجهها فيقول: "وقمت بتوضيح معاني المفردات الغامضة، وشرحت قصائد الديوان بيتاً بيتًا، وواجهت خلال الشرح صعوبات تعرض لكل من يتصدى لشرح شعر قديم نُظم بلهجة دارجة تتطور مفرداتها وأساليبها وتتغير وفق تطورات الحياة السريعة وتغيراتها.ومعظم الصعوبات لا تعود إلى جهل مدلولات المفردات بقدر ما تعود إلى التعبيرات الاصطلاحية التي اختفت أو كادت من اللهجة الدارجة في نجد عموما وبلد الشاعر خصوصا". ومما يسترعي الانتباه في حديث القاضي النظري عن الشرح إشارته إلى أن توسعه في الشرح نتج عن مراعاته لبُعدٍ آخر إضافي غير البُعد المكاني الذي أشار إليه الفرج في شرحه، وهو البُعد الزماني أو المستقبلي الذي لا يلتفت إليه معظم الشارحين، يقول القاضي: "كما حرصت في الشرح على إيراد مرادف الكلمات مع الإشارة إلى الفصيح منها، وإن اقتضت الحاجة ذكرت المعنى العام للتركيب أو البيت. وقد يجد بعض القراء شرحا لكلمات مفهومة متداولة في الوقت الراهن لا تحتاج إلى شرح، والسبب يعود إلى أني وضعت في اعتباري حاجة القراء والباحثين من خارج المنطقة إلى شرحها، إضافة إلى أن المفهوم اليوم قد يكون غامضا غدًا". ومن الواضح أن الوعي بأهمية الشرح يغيب غيابًا تامًا على المستويين النظري والتطبيقي في بعض الأعمال التي يُفترض أن تُعنى به لاسيما على مستوى التطبيق، ومن تلك الأعمال على سبيل المثال كتاب (خمسون شاعرًا من الإمارات) للأستاذ سلطان العميمي الذي لا يُمكن أن نفهم من قوله في مقدمة الكتاب: "ولا يزال الكثير من شعرائنا النبطيين في حاجة إلى من يوصل أشعارهم وأصواتهم إلى خارج حدود وطننا الحبيب" إلا أنه راغب في إيصال صوت الشاعر الإماراتي للمتلقي خارج حدود الإمارات بقوة ووضوح، لكن القارئ سيفاجأ بأن العميمي لا يضع مسألة الشرح على أهميتها ضمن قائمة اهتماماته ولا يقوم بشرح أي كلمة في مجموع شعري يقع في أربع مائة صفحة..! على مستوى التطبيق هناك تباين كبير بين إهمال الشرح بشكل تام أو قيام الشارح بانتقاء بعض المفردات بشكل عشوائي وشرحها بحسب خلفيته الثقافية وهو الاتجاه السائد، مع عدم إمكانية تجاهل تجارب عديدة مُشرقة في شرح الشعر الشعبي من بينها على سبيل المثال تجربة الشيخ أبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري الذي قدم أعمالاً تستحق الاحتذاء بمنهجه فيها بشكل عام ومنهجه في تطبيق الشرح بشكل خاص. كانت هذه ملاحظات صغيرة أحببت تدوينها في موضوع اتجاهات شراح الشعر الشعبي، مع اعترافي بفضل جميع من وردت أسماؤهم هنا في خدمة شعرنا الشعبي، وفضل آخرين غيرهم ممن لم يسعني الاطلاع على تجاربهم في الشرح أو لم تتسع المساحة للإشارة إليها، وكذلك استشعاري التام لمدى صعوبة عملية الشرح لقصيدة واحدة ناهيك عن شرح ديوان أو مجموع شعري كامل. شاعر نجد الكبير ديوان النبط