في المدة التي مكثها الإنجليزي بالقريف في بريدة (روايات غربية عن رحلات في شبه الجزيرة العربية) سنة 1862 م قام بزيارة لمعسكر الحجاج الفرس الذي يتحول سنوياً إلى سوق رائجة لتبادل البضائع في البلدة التي قال بأن تجارتها قد شهدت كسادا بعد ما أنهكتها الحروب حتى صار لزاماً على التجار والسماسرة إغلاق محالهم التجارية وحوانيتهم فور سماعهم لنداء الحرب وأشار قبل ذلك إلى سبب يعتقد أنه المسبب الرئيسي في كساد تجارتها وهو ما أسماه (إخماد جذوة الحرية) ويتمثل بحسب اعتقاده في منع لبس الحرير وحظر التدخين وغيرها!! بعد ما شن نقدا قاسيا على حاكم البلدة متهما إياه تعمد تأخيرهم تحت حجة سلامة الطريق وتهيئة الظروف قائلا في تفاصيل زيارته لهذا المعسكر: يتسم صباح القصيم بالدفء عادة، غير أنه في هذا الوقت من الأيام الأواخر من شهر سبتمبر، يكون منعشا، فالسماء صافية والجو لا يكدره الضباب. الشمس تسطع هنا على سهل ممتد بلا نهاية، فتنطلق نسمات الصباح الأولى، منعشة تبعث النشاط إذ تنفرد شبه الجزيرة العربية بنحو كامل بهذه الميزة، التي نفتقدها في مصر والهند والمغرب. كنا في الساعات الأولى من الصباح، عادة نخرج نجوب الشوارع وننتهي إلى تلك التي كنا قد دخلنا منها إلى المدينة، حين قدمنا إليها أول مرة، كما كنا نذهب أحيانا إلى المعسكر الفارسي حيث تمتاز المشاهد هناك بالحيوية والإثارة. تجد في المعسكر الفارسي سلال التمر وأكوام الخبز وحزم الحطب، وسلالا ملئت رملا وضع فوقه البيض والدلاء المترعة بألبان الإبل والغنم. وترى وسط هذا الركام صفوفا من نسوة المدينة البائعات يعرضن بضائعهن على رواد المعسكر، وترى في المعسكر سائقي الإبل من البغداديين بوجوههم المكتنزة التي يرتسم الزهو على محياها، كما تجد بعض الشباب الدميمي الخلقة الشاحبين وفدوا من مشهد (حيث كل ابن أنثى هناك حسن أو علي) وهم يتحدثون بنزق، يسيئون إلى كل من يستطيعون التجرؤ عليه، ويتملقون كل من يفوقهم قوة أو قدرة فيغدون كأنهم عبيد له، وهناك أيضا الفرس من ذوي الأنوف المعقوفة بقبعاتهم الطويلة، وأزيائهم المتعددة الأشكال. الزاهية الألوان، يقضون وقتهم في المعسكر متسكعين بلا هدف يبثون شكاياتهم أو يتشاجرون. والجدير بالذكر أن الفارسي لا يماثل العربي في سلوكه، فهو سرعان ما يظهر التذمر مما قد يعانيه، ولا يتورع عن بث شكايته إلى من يصادفه، كائنا من كان، ولا يدرك أن الصبر في التعامل مع العرب هو ميزة ضرورية لكل من أراد أن يلتزم حدود الأدب. ترى في المعسكر بعض مواطني بريدة يقايضون بسلعهم، كما ترى أفواجا من البدو يحمل كل منهم سوطه بيده، فإذا عنّ لك أن تسأل أياً منهم عن السبب الذي أتى به إلى هنا فسيكون جوابه بالتأكيد شيئا مرتبطا بكلمة جمل، أو مرادفاتها. فلكلمة جمل عند البدو خمسة وعشرون مرادفاً تستعمل كلها للدلالة على هذا الحيوان. فتميز نوعه أو عمره أو غير هذه وتلك من أحواله. ويتعالى في المعسكر زعيق الباعة وهم ينادون على سلعهم من الملابس الفارسية، وآنية الطبخ وأدوات الزينة، وما إلى ذلك من سلع يحملونها على أيديهم لعرضها للبيع، أو قد يعرج البعض بها إلى المدينة حيث يمكن أن تجلب لهم هناك أسعاراً أعلى. وجد الفرس أنفسهم مستنزفين بين الضغوط التي يمارسها حاكم البلدة، وبين متطلبات نفقات إقامتهم اليومية، التي تتزايد يوما بعد آخر خلال بياتهم الطويل في هذا المعسكر، فاضطروا إلى أن يعصروا محافظهم حتى جفت، ثم لجأوا بعد ذلك إلى بيع ما تحتم عليهم الضرورة الملحة بيعه، بثمن بخس ليقابلوا نفقات شراء لبن أو حزمة حطب. وهكذا بدا مظهر هؤلاء الرجال يكشف عن خليط من الناس، المرتدين الملابس الجديدة الزاهية، والآخرين يروحون في ثياب بالية، فيبرز التناقض بين مظاهر الثروة وعضة الحاجة الملحة، ويمكن أن تلخص الحال بالقول: إن مظهر هؤلاء الرجال يحدث عن أنهم أعزاء واجهتهم ظروف عصيبة. وعلى الرغم مما تحركه هذه المنطقة فينا من إثارة إلا أنني وصاحبي بركات كنا نرى ألا يطول بنا المقام هنالك، وذلك خشية أن يكشف ما نتعرض له من أسئلة لها ما يبررها عن هويتنا، أو نصادف معارف يحسن بنا ألا نقابلهم في هذه الظروف.