في الفترة التي وصل بها المستشرق الانجليزي بالقريف لمدينة الرياض سنة 1279 ه كان جهاز(هيئة الأمر بالمعروف) بالإضافة لمهامه الرئيسية يؤلف مجلس الدولة الحقيقي من خلال اجتماعه الأسبوعي كل اثنين وخميس بالإمام فيصل بن تركي لمناقشة المسائل المتعلقة بالحرب والسلم والتحالف ويتلقى كافة المسائل الهامة الأخرى لإقرارها أو تعديلها ويحظى بثقة وقبول كبير من أصحاب القرار ومن شريحة أخرى من المجتمع الذي بدأ يستشعر أهمية وجوده في القضاء على المنكرات وضبط السلوك العام وهي أمور لم يستطع بالقريف تجاهلها رغم موقف العداء الذي ظهر جلياً من خلال وصفه لهذه الجماعة وممارساتها بأقذع العبارات وأشدها قسوة ولكنها تظل بالنسبة لنا ردود أفعال طبيعية من مستشرق اعترف في إحدى مقدماته للبريطانيين أنه جاء بتمويل من لويس فرنسا لتحقيق أهداف اليسوعيين ونشر الديانة النصرانية في بعض مدن الجزيرة لتحقيق الهدف الرئيسي وهو ربط حياة الشرق بالغرب إذ يقول استكمالًا لما بدأناه في حلقة ماضية نقلًا عن كتاب ( روايات غربية عن رحلات شبه الجزيرة ) في عرض حديثه عن نشأة الهيئة: يلتزم هؤلاء المتعصبون بارتداء زي بسيط يخلو من مظاهر الزينة والتكلف ولا يحملون السيوف لأن في حملها إشارة إلى السلطة الزمنية فهي رمز من رموز الجندية - ولكنهم يستعيضون عن ذلك بعصا طويلة يحملها كل منهم وترمز هذه العصا إلى الصبغة الرسمية للوظيفة التي يؤدونها. يضاف إلى كل ذلك أنهم يجوبون الشوارع في خطى وئيدة - تميزهم عيونهم التي تنظر إلى الأسفل وأصواتهم الخفيضة, ولباس الرأس الذي يتدلى حتى يغطي الجبهة من دون أن يكون له رباط رأس ( عقال ) وجاذبية سلوك, وسائر هذه الصفات التي يمكن ان تدلك منذ الوهلة الأولى على تميزهم عن عامة الناس. أما أحاديثهم فهي خليط من تلاوة الآيات الكريمة التي تدل على التقوى – تجدهم يرفعون أصواتهم كل نصف دقيقة على الأقل في مناسبة أو من دون مناسبة بكلمات تدل على وحدة الإله. ونجد انتشار هذه الظاهرة الأخيرة في أوساط المثقفين أكثر مما نجدها في أوساط العامة. يذرع هؤلاء المدعية ( الدعاة ) البلدة من شارع إلى شارع, أو قد يدخلون البيوت خلسة للتأكد مما يحدث فيها, ولا يتورعون عن فرض عقوبة الجلد في الحال على كل متلبس مهما كان شأنه وإذا هجس الواحد منهم بأن قوته غير كافية لتنفيذ العقاب, فسرعان ما ينادي على المارة أو العبيد الذين يهرعون لمساندته, فيلقون بالمذنب أرضا ليؤدبه المتعصب كيف يشاء وأكثر ما تمارس عقوبة الجلد على المتقاعسين عن أداء الصلاة جماعة, إذ يقوم مسؤول الحي برفقة من الأتقياء بدهم منزل المتخلف عن الجماعة , ولا يجرؤ أحد على منعهم, فيعظونه ثم يجلدونه. أما إذا صادف ان كان رب البيت المعني غائبا عنه أو غير موجود, فإنهم يصادرون عباءة تخصه أو سيفاً أو غير ذلك من ممتلكاته, ولا يرد اليه الا بعد أن يبرهن بعد عدة أيام على أنه واظب على أداء الصلاة جماعة. ويمضي بالقريف إلى القول: إن من يحاول معارضة هذه الجماعة بالقوة أو إذا عنّ له أن يرفع يده في وجه هذا الشخص المقدس, فإنه سيلقى عنتا في المعاملة. ويستطرد بعد ذلك ليقول إن الجرائم العظمى مثل الشرك أو الكفر المعلن أو الجرائم التي تستدعي عقوبتها ( البتر المباشر ) فإنها تحال إلى مجلس الإمام القضائي. بالقريف يفترض أن تؤدي هذه السلطة القوية الممنوحة لهذه الجماعة المؤيدة بالدعم الكامل من الحكومة ذاتها, إلى تنظيف المجتمع وتطهيره من الموبقات وخاصة أنه قد أصبح لهذه الجماعة التي أسست في الرياض جذور وفروع , وقويت واشتد أمرها. فالوظيفة العامة لم تعد تحمي صاحبها من العقاب ولا نبل النسب يمكن أن ينأى به عنه, ولذا فقد أصبحت هذه المؤسسة تعالج الخصومات السياسية والخاصة, وتحكم فيها بجلد أحد المقربين من الإمام ذاته, عند باب القصر لأنه نفث نفثة واحدة من دخان التبغ , ولم يستطع فيصل أن يتدخل في الأمر, أو لعله لم يشأ أن يتدخل لإنقاذه من تلقي خمسين جلدة في جريمة لا تكاد تزيد عقوبتها على خمس عشرة جلدة. أما رئيس الوزراء السابق المحبوب, فقد تعرض لعقوبة مماثلة بذريعة مماثلة, قبض على هذا الرجل حين خرج من القلعة قاصدا منزله وطرح أرضاً, وأنزل به عقاباً قاسياً أدى إلى وفاته في اليوم التالي. ثم يتساءل بالقريف: إذا كان هذا هو العقاب الذي يمكن أن ينزل بالشخصيات في إدارة الدولة, فماذا يمكن الجناة العوام توقعه.؟. إن الضحايا كثر والأطراف التي بترت أو كسرت أكثر من أن تحصى ( لعلة يشير إلى تنفيذ حد السرقة). إن التدخين ما عاد يمارس في الشوارع. وإن المساجد غصت بزوارها فقد برهنت الممارسات التي جرت في غضون عدة أسابيع أنها ناجعة حتى إنها نالت إعجاب الزعيم الأول وقام هؤلاء الشيوخ (مسلحين) بالعصي والقرآن إلى الأقاليم وحققوا أميز النتائج في القرى والمدن وساد الإصلاح العارض وسدير والوشم واليمامة بسرعة فائقة وانتظمت كلها على شاكلة الرياض.