تُعد "المحاماة" مهنة حُرة تحقق سيادة القانون، وتضمن للأفراد والجماعات حقوقهم وواجباتهم على حد سواء، فالمحامي هو القاضي الأول لأي قضية، سواء كانت جنائية أو تجارية أو أسرية، وفقاً لأصول الأنظمة واللوائح القانونية، يتبعها أخلاقياته وإنسانيته كشخص يرفع الظلم ويحقق العدالة للناس، وهي أيضاً من أكثر المهن مشقة، وأصعبها أداءً، فالجمع بين الربح المادي وتطبيق العدالة هاجس وهدف لكثير من المحامين، وخوف من الوقوع في الظلم. ولا نُنكر أن لكل مهنة "دخلاء"، حرّفوها وشوهوا نُبلها، فنجد البعض ممن ادعى"المحاماة" وباع فيها أخلاقيات مهنته ونزاهته، حيث يستغل جهل كثير من الناس حول حقوقهم القانونية والمدنية بغية تحقيق الربح، ونسيان أن المهنة لم توجد إلاّ لتحارب الظلم وتحقق العدالة. ويبقى المُحامي الأمين هو من يدرس القضية ويفهمها، ثم النظر إلى الغاية التي يريد العميل أن يصل إليها من توكيله، فإن كانت الغاية صحيحة، والأدلة تظهر صحة الدعوى وصدق العميل، فإنه يقبل الترافع فيها، أما إذا لم يكن الأمر كذلك فإن الأمانة وواجب المهنة يفرض على المحامي أن يمتنع عن القبول بالترافع في هذه الدعوى، أمّا الموكل فالأفضل أن يختار محاميه بعد استشارة وسؤال عن سمعته، ثم التأكد أنه مقيد في "سجل المحامين"، حتى يستطيع بعد ذلك رفع شكوى في حال حصلت خصومة مستقبلاً، كذلك على الموكل أن يحتفظ بنسخ من مستندات قضيته، والتي من شأنها أن تحفظ حقه في حال هرب المحامي. قضايا خاسرة وأكد "محمد الجذلاني" -قاض ومحام- على أن هناك نوعين من القضايا التي يمكن تسميتمها قضايا خاسرة، الأول هي القضية التي يكون فيها العميل على باطل وخسارته ظاهرة، والثاني هو أن يكون العميل على حق لكنه لا يملك الأدلة المثبتة لحقه، وهذا قد يكون في القضايا الحقوقية، كما قد يكون في القضايا الجنائية، مضيفاً أنه كمثال على العميل الذي يكون على حق لكنّ موقفه ضعيف؛ أن يدعي أحدهم ديناً على غيره لكنه لا يملك أي دليل على إثبات هذا الدين، ومثاله في القضايا الجنائية كأن يكون الشخص متهماً بارتكاب جريمة، وهناك الكثير من الأدلة التي تشهد ضده، وهو يؤكد براءته منها، فقد يكون بريئاً فعلاً لكن موقفه ضعيف، مبيناً أن كمثال على العميل الذي يكون على باطل في القضايا الحقوقية، كأن يدعي شخص أنه شريك مع آخر في مال أو عقار، أو يدّعي ملكية شيء، لكنه ليس صادقاً في دعواه، ولا أدلة عنده تثبت ذلك، ومثاله في القضايا الجنائية، أن يكون الشخص مرتكباً لجريمة، والأدلة تثبت ذلك، لكنه ينكر ارتكابه لها. وعلّقت "نوف اليحيا" -خريجة قانون من جامعة الملك سعود ومحامية متدربة في مكتب محاماة- قائلةًَ:" بداية لا توجد أي قضية يستطيع أحد الجزم أنها رابحة أو خاسرة قبل رفعها للقضاء، فلكل قضية ظروفها الخاصة، إضافةً إلى أن مصطلح الربح أو الخسارة يعود إلى مصدرين؛ إما خسارة مادية وربح إنساني، أو خسارة إنسانية وربح مادي، هذا في مقاييس القوانين الأرضية، أما قانون السماء "فإن الله لا يضيع أجر المحسنين". تحقيق العدل ورأى "أحمد إبراهيم المحيميد" -محام ومستشار قانوني، وعضو برنامج الأمان الأسري الوطني- أن مهام المحامي وفقاً لنظام مهنة المحاماة، تتلخص في واجب تقديم النصح والإرشاد والدفاع والاستشارات القانونية، وكذلك المساعدة في تحقيق العدل وضمان الحقوق بجانب بذل العناية والجد والاجتهاد في مجريات القضية، وليس تحقيق النتيجة، إلى جانب مراقبة إجراءات التحقيق والمحاكمة وتطبيق العدالة، مضيفاً أن الأموال أغرت بعض الدخلاء على مهنة المحاماة ممن لا يخافون الله، من أجل الكسب المادي السريع، غير مبالين بمشروعية ذلك الكسب، ولا بالأنظمة واللوائح. وأيده "الجذلاني" أن كثيراً ما يستمر "بعض" المحامين في ارتكاب الأفعال المشينة، ولا يتوقف عند حد تضليل العميل، وأخذ ماله بغير حق، بل يتعدى ذلك للاستماتة في تضليل القضاء، والإضرار بالطرف الآخر في الدعوى، ومحاولة تضييع حقه، أو على الأقل إطالة أمد القضية حتى لا يصل صاحب الحق إلى حقه إلاّ بعد سنواتٍ طويلة، وذلك لتحقيق عدة أهداف دنيئة فاسدة، منها إقناع موكله أنه بذل جهداً كبيراً يستحق معه المال، لافتاً إلى أنه في كثير من هذه القضايا يرتكب المحامي جريمة أشنع، وهي اتهام القضاء بالجهل أو الفساد، لأن الحكم لم يكن على هواه، ويصوّر للعميل أن الحكم قد جانبه الصواب، وأنه ظلم. دور محايد وأوضح "المحيميد" أن دور المحامي محايد، فهو ليس بالخصم، وليس بطرف من أطراف النزاع، وإنما هو وكيل عن طرف في النزاع أو الخصومة أو المطالبة، يتولى مهمة الهجوم حيناً، ومهمة الدفاع حيناً آخر، وقد يكون وكيلاً عن شخص في نزاع، ثم يصبح ضده في نزاع آخر، مضيفاً أنه يتعين على المحامي ألا يتقيد بواجبه تلقاء موكله فقط، وإنما عليه أيضا أن يتقيد بواجباته الشرعية والقانونية والأخلاقية. وأكد "محمد الجذلاني" على أنه يمكن للمحامي إدراك هذه الأمور بفهمه وخبرته، فهو قبل أن يقبل الترافع في أي قضية يجب عليه أولاً أن يدرسها ويفهمها، ثم ينظر إلى الغاية التي يريد العميل أن يصل إليها من توكيله، فإن كانت الغاية صحيحة، والأدلة تظهر صحة الدعوى وصدق العميل، فإنه يقبل الترافع فيها، أما إذا لم يكن الأمر كذلك فإن الأمانة وواجب المهنة يفرضان على المحامي أن يمتنع عن القبول بالترافع في هذه الدعوى، مشيراً إلى أنه إذا شعر بأن العميل على حق، وظهر له عدة قرائن، لكنه يعتقد أن موقف العميل في الدعوى ضعيف، فإنه يجب عليه في حال أراد الترافع عنه أن يوضح له بصدق وأمانة ضعف موقفه، ويطلعه على احتمالات الدعوى. مبلغ مُقدم وأكدت "نوف اليحيا" على أن الحقوق والواجبات تعتمد غالباً على الشروط الواردة في عقد الاتفاق بين المحامي وصاحب القضية، فأغلب المحامين يشترطون مبلغاً مقدماً في الأتعاب، لا يُسترد، ولا يستقطع منه، سواءً انتهت القضية بالخسارة، أو انتهت بالصلح، وفي حالة الربح تكون دفعة ثانية، إمّا مبلغ مقطوع أو نسبة من ما يحكم له القضاء من تعويض ونحوه، مضيفةً أن على الموكل أن يختار محاميه بعد استشارة، وسؤال عن سمعته، ثم التأكد من أن المحامي مقيد في سجل المحامين في وزارة العدل، حتى يستطيع بعد ذلك رفع شكوى للجنة المحامين، في حال حصلت خصومة بينه وبين محاميه مستقبلاً، كذلك على الموكل أن يحتفظ بنسخ من مستندات قضيته، في حالة هرب المحامي، إضافةً إلى أنه على الموكل أن يكون حذراً، فقد حصلت حالات اتفق المحامي مع الخصم ضد موكله، وانتهت بسجن الموكل، واقتسام المبلغ بين الخصم والمحامي. وأوضحت "نورة الداود" -خريجة قانون بجامعة الملك سعود ومحامية- أن للموكل حق استرداد النفقات المالية في حال خسارة القضية، مضيفةً أنه يستحسن للموكل أن يتفق مع المحامي على نسبة معينة في حال كسب القضية، وعلى مبلغ محدد لأتعابه بشكل عام، وذلك لأن المحامي قد بذل جهداً ووقتاً لدارسة القضية، والتحضير لها، فليس من العدل سلبه حقه المادي في حال خسارة القضية، إلاّ إذا كان المحامي سيئ النية، وكان يعلم بموقف موكله ولم يوضح له ذلك، مبينةً أن الحل لمثل هذا التلاعب، أن يطلب من المحامي تحديد موقفه القانوني في قضية ما، وله أن يطلب ذلك من أكثر من محام، ومن ثم توكيل الأفضل دون أن يضطر إلى دفع مبالغ عالية. منع وتأديب وأكد "محمد الجذلاني" على أنه كما يوجد محامون يتولون القضايا الخاسرة، ويرتكبون فيها التضليل للعميل، فيوجد كذلك محامون يتولون قضايا عادية ليست خاسرة، لكنهم يرتكبون تضليلاً في جانبٍ آخر، وهو تضخيم نتائج وتوقعات الدعوى أمام العميل، فقد يكون العميل مثلاً يرغب المطالبة بحقٍ محدد، فيوهمه المحامي أن له الحق في المطالبة بتعويضات كبيرة زيادةً عن الحق الأصلي، أو يوهمه أن له الحق بالمطالبة بطلبات إضافية غير الطلب الأساسي في الدعوى، ثم يحدد المحامي أتعابه على أساس تصديق العميل لهذا الكذب، مُشدداً على أهمية تفعيل نظام المحاماة في جانبين مهمين هما؛ منع غير المحامي المرخص من الترافع، وتفعيل تأديب المحامين المخالفين، والحزم معهم في مخالفاتهم. محمد الجذلاني أحمد المحيميد لا أحد يرغب في قضايا "الأحوال الشخصية"! أكدت "نوف اليحيا" على زهد غالب المحامين في قضايا الأحوال الشخصية، لعدة أسباب أهمها طول فترة الترافع، وتعدد جلساتها، وطبيعة أطرافها، إضافةً إلى تشابك موضوعاتها، مما يجعل أفضل وصف يمكن إطلاقه على قضايا الأحوال الشخصية بأنها "قضايا عنقودية"، فما أن تنتهي قضية الخلع حتى تبدأ قضية الحضانة، ثم النفقة، لتنتهي بقضايا تحديد أجرة الرضاع والزيارة، وقد يستبق الزوج قضية الفسخ بدعوى انقياد إلى بيت الطاعة، فتطول القضية، مبينةً أن المردود المادي غالباً ضعيف. وأضافت أنه يستنكف المحامون ذوو الخبرة الطويلة عن هذه القضايا، أو يحددون سعراً مرتفعاً؛ لذلك تتجه أطراف القضايا إلى محامين ذوي خبرة ضعيفة لانخفاض المبلغ الذي يحددونه على القضية، أو محامين وهميين، وهم في الحقيقة مجرد معقبين، وغير مرخص لهم بمزاولة المهنة، وغير مقيدة أسماؤهم في سجل المحامين في الوزارة!. وأشارت "نورة الداوود" إلى أن استغلال القضايا الخاسرة يُؤثر بشكل سلبي على المحامي أكثر من الموكل؛ لأن كل قضية خاسرة تؤثر سلباً على نجاح المحامي، ويكون لها مردود سلبي في مجاله، وبالتالي يتحاشى المحامي الناجح ذو السمعة الحسنة اللجوء للكسب المادي من خلال استغلال قضايا خاسرة. معاقبة المحامين المخالفين..! كشف "أحمد المحيميد" أن نظام المحاماة يضمن عقوبات رادعة لأي محام يرتكب أي مخالفة نظامية منها الشطب وإلغاء الترخيص، كذلك يعاقب كل محام يخالف أحكام النظام أو لائحته التنفيذية، أو يخل بواجباته المهنية، أو يرتكب عملاً ينال من شرف المهنة بالإنذار واللوم والإيقاف والشطب.وقال "محمد الجذلاني" إن الإجراء الذي يتخذه القاضي تجاه المحامي في القضايا الخاسرة له عدة صور منها؛ قد يأمر القاضي مثلاً بإخراج المحامي من الجلسة إذا أخل بنظامها، أو أساء الأدب فيها. وأضاف: يأتي هنا تساؤل مهم، لا أستطيع الإجابة عليه وهو ما نصّت عليه المادة الثالثة من نظام المرافعات الشرعية -فقرة 2- من أنه إن ظهر للمحكمة أن الدعوى صورية أو كيدية وجب عليها رفضها، ولها الحكم على من يثبت عليه ذلك بالتعزير، فهل يشمل ذلك المحامي؟، أم أن هذا النص خاص بالطرف الأساسي في الدعوى وليس وكيله؛ على اعتبار أن هناك آلية خاصة لتأديب المحامي وتعزيره هي الواردة في نظام المحاماة. وشدّد على أن التساؤل يحتاج إلى دراسة واجتهاد، والجهة القضائية المختصة هي التي تتولى الإجابة عنه، وتقرير التفسير الصحيح لهذا النص النظامي.