من أنبل غايات الكتابة الصحفية، توجيهها للنقد الموضوعي البنّاء، كلّ كاتب بحسب اختصاصه وما يطلع عليه من مظاهر أو ممارسات سلبية. ويعتبر كتّاب الصحافة السعودية بشكل عام من أكثر كتّاب الصحف تميزاً، وموضوعية، وتوازناً وحكمة. وإذا كان النقد الموضوعي البناء يعتبر من أهم مصادر تقويم الأداء، وإصلاح العوج، والارتقاء بمستوى العمل أو الخدمة في كافة الجهات الحكومية والأهلية؛ ولئن كان من يمارس النقد الموضوعي بصدق ومحبة ونصح لأئمة المسلمين وعامتهم، يستحق التكريم والتشجيع؛ إلا أن هناك مسألة أخرى ذات أهمية كبيرة ينبغي على أي كاتب ممارس للنقد الموضوعي أن يتصورها، ويضعها في الحسبان. غالب من يتفاعلون ويطيرون فرحاً بالنقد الموجه إلى وزارة أو جهة لا يكون لديهم أي اهتمام بنقد غيرها من الوزارات أو الجهات الأخرى، حتى ولو أن موضوع النقد كان أهم وأخطر، لأن غايتهم محصورة فقط في تصفية الحساب الشخصي مع وزير أو مسؤول بعينه. وهي مسألة لم تكن تخطر لي على بال، إلا حين كشفتها لي التجارب، وأكدتها الدلائل، وأصبحت أراها حقيقة ظاهرة، اضطررت بكل أسف إلى التيقظ لها، والحذر من الوقوع في شراكها. ألا وهي أني أدركت بعد خوض في غمار النقد الذي أحرص كل الحرص على التزام الموضوعية فيه، أنه قد يكون هناك شريحة من المتلقين والمتابعين، يستغلون هذا النقد في تصفية حساباتهم الشخصية مع المسؤول الذي وجهت النقد إلى وزارته أو إدارته. فأراهم يطيرون فرحاً بهذا النقد، ويتفاعلون كثيراً معه، ويعملون جاهدين على نشره وتوسيع دائرة المطلعين عليه، ويذيّلون هذا النقد بتعليقات تخدم أغراضهم وتوجهاتهم. ولأول وهلة قد يختلط على الكاتب هذا الأمر، فيفرح لهذا التفاعل والتصفيق الذي واجهه به كثيرون، ويظن أنه يعبّر عن فرحهم بالنقد الموضوعي. بينما لو أمعن النظر، ودقّق في طبيعة وملامح هذه الجماهيرية الزائفة، لأدرك أنها كانت فرحاً بتقديمه لهم سلاحاً لاستخدامه في الإساءة لشخص المسؤول الذي يختلفون معه لأسباب شخصية أو إيديولوجية، ثم يكتشف الكاتب - إن كان حصيفاً عاقلاً - أنه أصبح أداة في يد الآخرين لتحقيق أهداف لا تمت للنصح ولا للمصلحة بأي صلة. والتفريق بين الترحيب الموضوعي والتفاعل العادل مع النقد الإيجابي، وبين هذا النوع من الفرح لأغراض خاصة وشخصية، يكمن من خلال عدة علامات وفوارق بين الأمرين ومن هذه العلامات مثلاً: أن هذا التفاعل والترحيب بالنقد لا يحصل أبداً بنفس المستوى في حال عاد الكاتب إلى تصحيح خطأ وقع فيه، أو أتبع انتقاده بتوضيح تلقاه من الجهة المختصة التي سبق له انتقادها، فلا يعبأ هؤلاء الذين صفّقوا بالأمس لمقال النقد بمقال التوضيح أو التصحيح. أن غالب من يتفاعلون ويطيرون فرحاً بالنقد الموجه إلى وزارة أو جهة لا يكون لديهم أي اهتمام بنقد غيرها من الوزارات أو الجهات الأخرى، حتى ولو أن موضوع النقد كان أهم وأخطر، لأن غايتهم محصورة فقط في تصفية الحساب الشخصي مع وزير أو مسؤول بعينه. وفي ذات الوقت، لا يتقبل هؤلاء أبداً أن يأتي الكاتب نفسه بالثناء على جوانب إيجابية في تلك الوزارة يمكن احتسابها لصالح الوزير، بل يتهمون ذات الكاتب الذي صفقوا له بالأمس باتهامات كالنفاق والمداهنة والمحسوبية، ولا يستحيون أن يعودوا من الغد للتصفيق لكتابته إن عاد إلى النقد!! وهناك الكثير من العلامات التي يمكن من خلالها التمييز بين التفاعل الطبيعي العادل مع النقد الموضوعي، وبين استغلال النقد في الإساءة أو تصفية الحسابات. ومما تعلمته من هذه التجارب، أن أتريث طويلاً، وأتوخى الحذر كثيراً، وأنا أوجه النقد لوزارة أو جهة أرى في الساحة هجمة ممنهجة منظمة على وزيرها، حتى لا أكون أداة في أيدي أصحاب الأغراض الشخصية. ولعل مما هو أخطر من ذلك وأكثر سوءاً، أن يتم استغلال كتابات ونقد كتّاب الصحف، أو ما تنشره الصحف ووسائل الإعلام من أخبار وحقائق، من قبل جهات أو أطراف مغرضة، للإساءة إلى الوطن، وتأجيج نار الفتنة بين صفوف أبنائه، وإيغار صدورهم على ولي أمرهم أو علمائهم أو مسؤوليهم، لأنه لا يمكن الخلط بين انتقاد مواطن الخلل بغية الإصلاح، وبين ترصّد الأخطاء وتضخيم السلبيات، والتعامي الكامل عن الإيجابيات والإنجازات، وتصوير الوطن أنه كتلة من الفساد والفاسدين لا أمل معها في الإصلاح. فتنشأ الأجيال على هذه الفكرة الهدامة الخطيرة، ويقتل الطموح والأمل في نفوس شباب الوطن ورجاله، ونصبح كمن يهدمون بيوتهم بأيديهم. إن مثل هذه الجوانب مما ينبغي لكل كاتب أن يحذرها، وأن يربأ بنفسه عن السقوط في شراكها. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش الكريم سبحانه.