معرض كتاب الرياض الدولي هذا العام لم يختلف كثيراً عن سابقيه من ناحية ما يحمل من تناقضات وتجاذبات والخروج بالتنازلات وانتصار القوى المتشددة أو المقاومة لحرية التعبير والتفكير واستسلام المؤسسة الرسمية لها. فعلى الرغم من عدد من المؤشرات الإيجابية والمبادرات التي خرج بها هذا المعرض وعلى رأسها فسح بعض الكتب التي يتشنج البعض عندما نأتي على موضوعها مثل كتاب السادس من نوفمبر الذي يؤرخ ويوثق وللمرة الأولى لمسيرة قيادة 47 امرأة لخمس عشرة سيارة في الرياض في السادس من نوفمبر عام 1990 وبعد أن استغرق فسحه أكثر من عام فتعرضه دار جداول للبيع وتوقعه الدكتورتان عائشة المانع وحصة محمد آل الشيخ على منصة التوقيع الخميس الماضي أثناء ما كنت على الهواء مع قناة الثقافية السعودية أتحدث عن الانفراجات التي يقدمها المعرض هذا العام. وبادرة أخرى تمثلت في إطلاق المعرض أسماء الرواد من المصورين والمصورات في السعودية ومن ضمنهن الفنانة مديحة العجروش التي كانت إحدى قائدات السيارات عام 1990 و2011 و2013. بالإَضافة إلى تفاعل المعرض الجم مع مبادرات الشباب ونشاطات الأطفال الإبداعية المنوعة. إن هذه المواقف المحايدة من قبل إدارة المعرض تجاه محتواه من أعمال ومؤلفين أو فنانين تقدم ما ينبغي على المعرض القيام به دوماً دون أن يقبل بتقديم التنازلات مقابل نشر المعرفة والثقافة وحرية التعبير. لكن هذا لم يستغرق طويلاً وها هي إدارة المعرض تستجيب للتضييق على الفكر بقبول مصادرة بعض المحتسبين لكتب ودواوين كبار الأدباء والشعراء من أروقة دور المعرض مثل دواوين بدر شاكر السياب ومحمود درويش مما يمثل انتكاسة غير مقبولة تحمل تناقضات تحيل الموقف إلى صور كاريكاتيرية ساخرة لمصادرة ما تستطيع تحميله كاملاً على الإنترنت غير المحجوب على أي وسيلة ذكية من كمبيوتر إلى اللوائح الرقمية إلى الهواتف الذكية بعيداً عن هذ التشنجات التي تفوت عملية التفاعل مع العالم الورقي الذي نأمل ألا ينقرض. أو في منع الرجال من دخول المعرض في بعض أيامه بحجة وجود طالبات مدارس، ومن غير الواضح ما الذي يشي به هذا المنع من تلميحات غير لائقة، لاسيما وأن هذا المنع نال عدداً من الكتاب والمثقفين الذين فضلوا زيارة المعرض صباحاً مثل الأستاذ إبراهيم البليهي الذي مر بتجربة مسيئة للثقافة بمنعه من الدخول. وتناقض آخر برز من خلال منع إدارة المعرض للدكتورة فوزية أبو خالد من توقيع كتابها المشترك مع الأديبة أميمة الخميس في مقهى المعرض في توقيع ثان يسبق أمسيتها الشعرية يوم الخميس الماضي. فنجد أن مدير منصات التوقيع يأتي ليخبر الدكتورة أنها تقترف ممنوعاً ثقافياً يؤدي إلى الازدحام في الممرات، وما لبث أن أتى مدير المعرض بنفسه ليكرر نفس الكلام. والغريب في الأمر أن كليهما لم يكن لديه ما يقدمه من لوائح تنص على منع التوقيع خارج إطار الزمان والمكان المحددين من قبل المعرض. ودخلا في تناقضات حول أنهما مستعدين لجدولة توقيع ثان إن كانت المؤلفة تريد ذلك وهو ما يخالف طلباً تقدمت به الدكتورة فوزية إليهم ورُفض. فنجد أن إدارة المعرض، كما في العديد من القرارات الارتجالية التي تُقدم المنع، ليس لديها علم بأن توقيع الكتب والاحتفاء بالثقافة يقوم به العالم، الذي ابتدع التوقيع، في كل مكان لاسيما عندما يكون غير تقليدياً من المقاهي إلى المكتبات إلى قطارات الأنفاق إلى الحدائق العامة والمسارح وهكذا حيث يصلون إلى القارئ. لكننا كالعادة، وباعتبار أن تقليد التوقيع على الكتب محدثاً على وعي كثير من هؤلاء المسؤولين فتغيب عن إدراكهم الحكمة أو الهدف من هذا الفعل الثقافي الاحتفائي فيقعون في فخ المصادرة المعتاد والأقرب إلى وعيهم. ثم نجد أن أكثر ما كدر صفو المعرض هو استلاب بعض الحقوق المكتسبة من المعرض السابق أو مناسبات سابقة كانت المرأة قد نالتها. وكالعادة وباعتبار أنها الحلقة الأضعف والتي تتقصدها فئة المتشددين نظراً لتساهل المسؤولين أمام مقاومة النيل منها بكافة الحجج التي سُمح لها بأن تُضيق عليها وتصبح هي الأصل مهما كانت ضعيفة. فعلى سبيل المثال مُنع التلفزيون من تغطية توقيع الكاتبات لكتبهن وإجراء مقابلات لهن وهن على منصة التوقيع. فما الحكمة من هذا المنع وكيف يقبل التلفزيون الرسمي أن يستجيب لذلك؟ هذه مساءلات وليست أسئلة. ثم إن عضوات في بعض المبادرات الثقافية الجميلة والعاملات فيها مثل مبادرة إثراء المعرفة التي يتبناها مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي-أرامكو، منعن من الحضور وممارسة عملهن في منصات جهاتهن، مرة أخرى استجابة لاعتراض شكلي سطحي يعكس ضعف إدارة المعرض. والأمسيات الشعرية والفعاليات المشتركة التي كانت تقدم على منصة مسرح المعرض، منعت منه المشاركات من النساء ورفعن إلى شرفة في أعلى المسرح ومنعت الكاميرات من الوصول إليهن حتى ولو أخذوا موافقتهن أو كن ممن يظهرن على شاشات التلفاز، والتي كانت قائمة في معرض العام الماضي وبعض أيام المعرض الأولى. إن حالة الخوف التي تتلبس مسؤولي إدارة معرض الرياض للكتاب لا تسهم إلا في تقديم المزيد والمزيد من التنازلات في ظل غياب النساء عن المقاومة والاعتراض واتخاذ القرار برفض أن تكون التنازلات على حسابهن. وبالتالي نترك المجال مفتوحاً للمزيد من التضييق على الحريات وعلى مشاركة المرأة وحضورها الثقافي الواعي لإرضاء فئة متوهمةً حراستها للفضيلة. وهذه الخسائر سوف تجعلنا مجتمعاً ومؤسسات نعيد اختراع العجلة كل يوم مهدرين الطاقة المعهودة والزمان العبثي الذي يكرس خروجنا التشهيري من دائرة التاريخ أو صنع الحضارة الإنسانية.