العرب أشدّ الأمم كراهية للبخل والبخلاء.. ومن أكثر الأمم تصويراً لأحوال البخلاء المزرية ونقيصة البخل المخزية. ولشاعرنا الشعبي إبراهيم بن جعيثن تصوير جميل لحال بعض البخلاء.. وهو تصوير متحرك دقيق.. طريف وبليغ.. وفيه يقول: خطوى المعاميل توّزا راعيها ما شاف خلافه فهذا البخيل يخبئ آنية القهوة، فضلاً عن أوعية الطبخ، بحيث لا يراها أحد فيطمع في لقمة أو فنجان قهوة، فهذا البخيل ما رأى عيبه (خلافه) بل يعتبر ذلك حسناً وحكمة، وقد يحمل شطر البيت معنى آخر، وهو أن هذا البخيل لا يرى - مع معاميله - غير نفسه، لأنه من المستحيل أو يضيف أحداً من العاملين لا من الجن ولا من الأنس! إلى هَمّ يقوي نفسه نوى في ماله باتلافه فهو إذا غصب نفسه على أن يشرب القهوة وقد حن لها لبعد عهده بها خوفاً من الخسارة، وهَمّ أن يتقهوى ذلك اليوم، ظن أنه قد هَمّ باتلاف ماله، مع أنه لن يعمل من القهوة إلا أقلّ ما يكفيه، أما الآخرون فمستحيل أن يروا آنية القهوة أصلاً، فضلاً عن أن يشاركوه، لا أمل لهم فيه، هذا أمر مفروغ منه! تلقاه يكوبع في العيَّر قلبه ما يسكن رجّافه كنّه حبّال له حِقّه حطّ الحبة في مطرافه ساعة يدخل صكّ المجرى عقد شلحاته بأطرافه فإذا نوى أن يتقهوى من ماله الخاص بعد أن أبطأ الآخرون في دعوته للقهوة، أخذه صراع عنيف بين الشهوة للقهوة والخوف من خسارة قريشات معدودة، فقلبه يرجف من شدة الصراع، ويرجف من شدة الخوف أن يعرف أحد أنه سوف يذهب لبيته فيعمل لنفسه قهوة فقد يلحقه وهذه أم المصائب.. لذلك (يختل) وهو ذاهب إلى بيته يسير بصمت ولا يصدر أي حركة أو صوت ويتلفت للزوايا يخشى أن يراه أحد فكأنه صيّاد قد وضع له (فخاً = جِقّه) وأخذ حذره كله أن يحس به طائر.. فإذا سلّم الله ووصل بيته دخله بسرعة وأغلق الباب بلا صوت ثم أقفل الباب يإحكام ولم يكتف بالمجرى والمزلاج بل حرص على ألا يحس أحد أنه في البيت أحد فيشمر عن أكمامه ويرفع طرف ثوبه لكي لا يسمع أحد حفيفه، والشاعر يعبر عن الأكمام بالشلحات وهو لفظ يستعمل لملابس النساء فإما أنه يريد تشبيهه بالمرأة التي تريد ألا يراها ابن أمة، المرأة تتخفى عِفّة، والبخيل خسة.. كما أن لفظ (الشلحة) في عصر الشاعر يطلق على أطراف الأكمام.. في كل الأحوال تدل الصورة على شدة الكتمان وكأن هذا البخيل يريد أن يقوم بأمر هائل جليل لا يريد إن يدري عنه أي مخلوق فيُفسد عليه ما يريد! وبعد أن دخل البخيل بيته، وخلا بنفسه، وهمّ - بعد تردد وصراع - بإتلاف بعض المال في فنجان قهوة لنفسه - فإنه لا يزال يواصل الحذر والخوف أن يدري عنه أحد، فهو لا يصدر له أي صوت، ولا يُسمع منه أي حركة، حتى السعال يكبته إن جاء، وكأنه ملحوق من لصوص يريدون قتله وهو مختبئ عنهم، ولكن عند هذا البخيل مشكلة عويصة وهي أنه لا بد من سحق البُنّ بالنجر، والنجر فضيحة، له صوت، لكنه يختار أٍقصى مكان عن الناس في بيته، ويدق النجر بهدوء وحذر، ويقف بعد كل دقة يتأكد من أي رد فعل، فكأن هذا البخيل بصمته العميق وحذره الدقيق كلب من كلاب المزرعة، فإن الكلب الذي يحرس المزرعة يختفي خلف الشجر، ولا يصدر له أي صوت، ويكتم نَفَسَه، فإذا جاء من يسرق الخضره قفز عليه فجأة ومزقه.. البخيل هنا يسرق نفسه وهو كذلك الكلب: عفّى ما ها وحبيباته ووقوده خوص السقّافه حتى الكحّه ما يظهرها كنّه سارٍ في مخافه مِن خوفه يَظْهَر دخّانه يرقى ويغطِّي كشّافه كنّ بخيره كلب مخضّر يحوف الجايف ما حافه فهو يعد حبيبات القهوة عداً ونقداً.. المسألة فيها دفع فلوس (ما هي بلعب) ثم يوقد ناره بأرخص تكلفة على وجه الأرض(الخوص) ولكنه - قبل إيقاد النار والذي هو شرٌّ لا بدَّ منهَ) يسد النافذة العلوية الموضوعة أصلاً بحيث تفتح عند إيقاد النار حتى لا يخنق الموقد الدخان، ولكن الاختناق عند هذا البخيل أسهل من أن يعرف أحد أنه أوقد النار في بيته فيطرقه طارق طامع في مشاركته، لهذا يسد الكشاف حتى لا يطير الدخان ويراه أحد أما هو فيصر على حشر الدخان لأنه عنده أسهل بكثير من مشاركة أي أحد له في فنجان قهوة واحد! ولابن الرومي وصف بليغ في تصوير مدى بخل ذلك البخيل: يُقَتِّرُ عيسى على نفسه وليس بباق ولا خالد فلو يستطيع لتقتيره تنفس من منخر واحد