صدر عن دار جداول للنشر والترجمة في بيروت كتاب «هؤلاء.. وشعرية المكان» للباحث إبراهيم العميم. عن الكتاب: في الثقافة العربية منذ عصر النهضة الأدبية الحديثة، قليلة هي الأعمال التي تتناول أحداثًا ووقائع وموضوعات واتجاهات وميولاً وشخصيات، بالاستعراض والشرح والتفسير والتحليل بواسطة النثر الفني. والسبب في هذه القلة أن هذا النمط وهذا الفن من الكتابة نمط وعر وفن شاق، وقد لا يأمن سالكه من الوقوع في التكلف البياني والإعضال اللغوي، أو أن يضحي بإشباع موضوعه في سبيل المحافظة على تتالي جمله الشعرية وتواليها. وهذا العمل الذي نقدمه للقارئ هو من تلك الأعمال الأدبية القليلة في الثقافة العربية المحدثة، الذي صاغه صاحبه بلغة شعرية عذبة رقيقة وفاتنة وباذخة، عانقت اللغة فيها المضمون بوجد صوفي محموم. لعل مفتاح هذا العمل هو قول صاحبه عند حديثه عن قيس بن الملوح ومحمد بن عمار:» هذه الصحراء حكت قصص الحب قرونًا سبقت قيس بن الملوح وما زالت ترويها أساطير عقبت محمد بن راشد بن عمار. حكايات آخرين غيرهما هاموا تيها على تيه في وديان الحب، فآهات القوافي أزلية لا تتوقف أبدا. عندما يطل سهيل على أشجار العوسج متلحفاً ضوء القمر يبدأ الشجى يبعث الشجن، وتبدأ أحاديث السمر بين الآباء والأبناء والأحفاد: بين قيس بن الملوح ومحمد بن عمار، وبين الحطيئة وحميدان الشويعر، وبين متمم بن نويرة ونمر بن عدوان، وبين عمر بن أبي ربيعة ومحسن الهزاني، وبين الأعشى ومحمد بن لعبون، وبين زهير بن أبي سلمى وبركات الشريف، وبين الخنساء ومويضي البرازية، وغيرهم من الشعراء والشاعرات. يمضي هذا التلاقي والتلاقح سرمديًا بين الراحلين وبين والآتي.. في فلك الصحراء يتراءى لك طيف عروة بن الورد وفقرائه، والشنفرى ووحوشه، والسليك بن السلكة ومطارديه، والخلاوي ونجوم أفلاكه، وراكان بن حثلين وفرسه الكحلاء.. ولولا هذه الأرواح المتآلفة المتحابة، الغارقة في وجدها ما كتب للمكان تاريخ». في هذا العمل البطل بلا منازع هو المكان الذي هو الصحراء، رغم تعدد الشخصيات وتنوع القصص والحكايات والعذابات والأحزان والمباهج والمسرات، وتباعد الأجيال وتنائي المسافات واختلاف الأزمنة. والمكان عند صاحب العمل، هو الذي يصنع اللغة الشعرية، وهو وراء توارد الصور والأخيلة والمعاني والأساطير وتكرار القصص والحكايات وتشابه المآسي والأفراح في عصور الفصحى وعصور العامية. الفكرة التي يقوم عليها هذا العمل بثها كاتبه في أكثر من نص منها قوله:» نمر بن عدوان من أمراء التأبين. من ذاك المحيط الحزائني، الذي انتقل من نجد إلى البلقاء مع رائحة الخزامى والنفل، ورغاء الإبل، وغنج السراب الصحراوي الذي تزينه واحات القبور المتناثرة بين الكثبان والسهول». وقوله:»حميدان الشويعر، الحبر الفهيم المتهم بالعيارة امتداد لسلفه، وجده الحطيئة، فهما في الفقر سواء وللجوع أوفياء. كونهما المكان سهامًا من كلمات لغة تظللها السماء الصحراوية». وقوله: «إن الصحراء تعطيك رؤية أخرى للحياة تريك الموت والولادة داخل أعماقك وحول محيطك مع كل التفاتة، ترى منها أرجلك عروقاً، وأصابعك براعم. إنها انسجام مع القدر وتمرد عليه. وتلك العلاقة بين الجبال والرمال التي يباركها المطر فتنبت عشباً وأشجارا، وتسيل ودياناً، والتماثيل الجبلية، واللوحات الرملية التي نحتتها ورسمتها أنامل الريح تعيدك إلى بداياتك إلى رحمك الأول». وقوله - وهو يلحظ التشابه بين حياتيّ وشعريّ عمر بن ابي ربيعة ومحسن الهزاني- «أعمر هذا غير اسمه إلى محسن؟ أم أن العرق دساس؟ أم أن للمكان سيطرة على الزمان يطوي تاريخه ثم يبعثه من جديد في وجوه أخرى. هي الأزمنة تتلقف أرواح الأمكنة تنثرها حبيبات رمل وزهور لقاح، والرائحة الصحراوية المنبعثة من الخزامى والبختري والنفل أنفاس عشاق كانوا هنا، وأشعة الشمس ترفع حرارة الأرض حتى أنك ترى الهجير يرتفع أشجاراً تظلل قرى الحب وخيام الهيام». هذا العمل هو كتاب في التاريخ والأدب حدب فيه كاتبه على شخصيات الكتاب وأحبها حبًا جمًا. حزن لأحزانها وانتشى مع صبواتها بلغة غنائية حلقت في عوالمهم.