في الوقت الذي كان الناس في جزيرة العرب يستشرفون فصل الربيع ومواسم الخير والأمطار، كان الشاعر العربي القديم ما يكاد ينفك عن وصف الصحراء والناقة والنخيل الباسقة، حتى أصبحت البيد والصحاري القاحلة هي أنسهم ومسكن أرواحهم ونفوسهم، فوصفوها أيما وصف، وتغزلوا في سهولها وسفوح جبالها، بل لقد أطلقوا عليها الألقاب والأسماء المتعددة جرياً على القاعدة العربية القديمة التي تقول: "إن تعدد الأسماء دليل على عظمة المسمى"، لذا بلغ السيف والأسد والصحراء من الأسماء والكنى والألقاب ما لم تبلغه المخلوقات الأخرى، بل إن ملوك وسلاطين ذلك الزمان لم يحظوا بمثل ما حظيت به هذه الثلاث عند العرب الأقدمين، وعليه فقد ساير العربي القديم ظروف وعوامل التغير التي نزلت عليه في كل حدب وصوب، وإبان التوسع الحضاري وامتزاج العرب مع غيرهم من الأمم إلى أن قال شاعرهم يصف الخليفة "المعتصم بالله": ثلاث تشرق الدنيا ببهجتهم شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر وعليه فقد أصبح الممدوح في مخيلة العربي القديم جدير بأن يشارك الشمس والقمر كما كان الجاهليون يشبهونه بالسيف والأسد. «الخزامى» و«النفل» كانا حديث المقيم في الصحراء.. و«السوسن» و«النرجس» جذبا المار بالبلاد الممطرة ثقافة الربيع لم يعرف عن العرب قديماً التغني بالربيع والأجواء الربيعية، وإن حدث ذلك فهو يُعد من شواذ القصائد، غير أن العرب إبان حضارتهم ودخولهم إلى الأقاليم الباردة والممطرة، أصبحوا أكثر شاعرية ورغبة في وصف الأنهار والجداول والبساتين والخمائل، بل لقد وصفوا الربيع ونسائمه وأجوائه الخلابة وقرنوا بينه وبين الحب والجمال، وأفضوا في ذلك إلى أن أصبحنا نقرأ الدواوين الشعرية الخاصة بالربيع، كذلك تفرغ كثير من الشعراء لغرض وصف الطبيعة كما هو "الصنوبري" في الشرق و"ابن خفاجة" في الغرب، ولقد سبق الشاعر "أبو تمام" أقرانه في وصفه لفصل الربيع بقوله: رقت حواشي الدهر فهي تمرمر وغدا الثرى في حليه يتكسر نزلت مقدمة المصيف حميدة ويد الشتاء جديدة لا تكفر مطر يذوب الصحو منه وبعده صحو يكاد من الغضارة يمطر من كل زاهرة ترقرق بالندى فكأنها عين عليه تحدر من فاقع غض النبات كأنه در يشقق قبل ثم يزعفر أو ساطع في حمرة فكأن ما يدنو إليه من الهواء معصفر فصل الربيع مقرون ب«الحُب».. واستلهم العُشّاق ذكرياتهم الجميلة بأعذب القصائد في وصف «المعشوقة» وصف أخاذ وكانت قصيدة معاصرة "أبو عبادة البحتري" أكثر شهرة وانتشاراً في دواوين ومجالس الشعراء، حيث وصف الربيع وصفا أخاذاً، صوّر فيه بساط الأرض الأخضر وقد ازدان بأزهار النرجس والياسمين وهو يقول: أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً من الحسن حتى كاد أن يتكلما وقد نبه النيروز في غسق الدجى أوائل ورد كن بالأمس نوّما ومن شجر رد الربيع لباسه عليه كما نشرت وشيا منمنما أحل فأبدى للعيون بشاشة وكان قذى للعين إذ كان محرما ورق نسيم الريح حتى حسبته يجيء بأنفاس الأحبة نعما وقف «أبو نواس» على المروج الخضراء وقد اكتست بزهور «الجلنار» فصاغ لوحة فريدة عن المنظر الخلاب خزامى ونفل كانت ورود "الخزامى" و"النفل" حديث العربي القديم في بيئته الصحراوية، غير أن سكناه في البلاد الممطرة جعله يصف أزهار "السوسن" و"النرجس" و"الياسمين" و"الشقائق" و"النسرين"، وكذلك "الزئبق" و"الجوري" و"الجلنار"، ولأن الربيع يستلهم بدائع التعبير والتصوير فقد تفنن الشعراء فيما بعد بوصفه، وكان للنساء أيضاً دور في وصف عيون الماء وجداول الأنهار، حتى انفردت الشاعرة الأندلسية "حمدونه" بوصف واد نزلت به هي وقومها في فصل الربيع، فوصفته أيما وصف وهي تقول: وقانا لفحة الرمضاء واد سقاه مضاعف الغيث العميم حللنا دوحة فجئنا علينا حنو المرضعات على الفطيم يصد الشمس أنى واجهتنا فيحجبها ويأذن للنسيم تروع حصاه حالية العذرى فتلمس جانب العقد النظيم في عصر التقنية نقلت الكاميرا «الفوتوغرافية» و«التلفزيونية» للقاصي والداني محاسن الأجواء بطريقة حديثة تذكر العشق وقرن الشعراء فصل الربيع بالحب وتسابق العشاق في تذكر معشوقاتهم، مستلهمين في أجواء الربيع ونسائمه أعذب القصائد في وصف المعشوقة، فهذا "ابن زيدون الأندلسي" ينزل إلى أرض مدينة "الزهراء" التي كانت آية من آيات العمار والبناء، فيتذكر معشوقته "ولادة" حينها كانت في "قرطبة"، فقد ظل "ابن زيدون" يناجيها بقصائده الرائقة وهو يصف الربيع الأندلسي بقوله: إنّي ذكرْتُكِ بالزّهراء مشتاقا والأفقُ طلقٌ ومرْأى الأرض قد راقَا وَللنّسيمِ اعْتِلالٌ، في أصائِلِهِ كأنهُ رَقّ لي فاعْتَلّ إشْفَاقَا والرّوضُ عن مائِه الفضّيّ مبتسمٌ كما شقَقتَ عنِ اللَّبّاتِ أطواقَا أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً من الحسن حتى كاد أن يتكلما وقد نبه النيروز في غسق الدجى أوائل ورد كن بالأمس نوّما سرني وأبكاني وإن كان "ابن زيدون" قد أرسل رسالته إلى "ولادة"، فإن "صفي الدين الحلبي" هو الآخر قد تلقى رسالة من معشوقته وهو يرفل في ثوب الربيع القشب، ما دعاه إلى أن يقول: خلع الربيع على غصون ألبان حللا فواضلها على الكثبان ونمت فروع الدوح حتى صافحت كفل الكثيب ذوائب الأغصان وتتوجت بسط الرياض فزهرها متباين الأشكال والألوان اصرف همومك للربيع وفضله إن الربيع هو الشباب الثانِ وتأتيه رسالة المعشوقة فيبكي وهو يقول: ورد الكتاب من الحبيب بأنه سيزورني فاستعبرت أجفاني هجم السرور علي حتى أنه من فرط ما قد سرني أبكاني يا عين صار الدمع فيك سجية تبكين من فرح ومن أحزاني زارع الريحان وهو غير بعيد عن ذلك الشاعر الذي انتهز حلول فصل الربيع في نثر زهور الريحان حول خباء معشوقته التي يشاركه في عشقها أحد أبناء الحي ممن يتمثلون قول الشاعر: أنمار إذا آنست في الحي أنه حذارا عليه أن تكون لحنه حينذاك لم يجد هذا العاشق إلاّ صوت يتردد عليه من إحدى الخيام المجاورة وهو يقول: يا زارع الريحان حول خيامنا لا تزرع الريحان لست مقيم ما كل من طلب السعادة نالها ولا كل من قرأ الكتاب فهيم مالي لسان أن أقول ظلمتني والله يعلم أنني مظلوم شباب ثاني ولأن الربيع هو الشباب الثاني كما يصفه "صفي الدين الحلبي"، فقد اقترن أيضاً بأيام السرور وذكريات الصبا وعهود الشباب وعنفوان ربيع العمر، حتى أصبحت الجداول والمروج والخمائل دليلاً على حسن بديع الخالق، وعليه فقد تفرغ كثير من الشعراء في وصف محاسن الأرض وصفاء الينابيع، مذكرين بنعم الله سبحانه وقدرته على إحياء الأرض الموات، حتى لقد وقف "أبو نواس" في آخر عمره على المروج الخضراء في فصل الربيع وقد اكتست بزهور "الجلنار" فصاغ فيها ما رأته عينه لوحة فريدة من الشعر الدال على توحيد الله سبحانه وهو يقول: تمعن في بنات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك عيون من لجين شاخصات بأبصار هي الذهب السبيك على غصن الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك وهو ما جاراه أمير الشعراء حين وصف جمال أجواء الربيع في قوله: تِلكَ الطَبيعَةُ قِف بِنا يا ساري حَتّى أُريكَ بَديعَ صُنعِ الباري الأَرضُ حَولَكَ وَالسَماءُ اِهتَزَّتا لِرَوائِعِ الآياتِ وَالآثارِ مِن كُلِّ ناطِقَةِ الجَلالِ كَأَنَّها أُمُّ الكِتابِ عَلى لِسانِ القاري دَلَّت عَلى مَلِكِ المُلوكِ فَلَم تَدَع لأدِلَّةِ الفُقَهاءِ وَالأَحبارِ مَن شَكَّ فيهِ فَنَظرَةٌ في صُنعِهِ تَمحو أَثيمَ الشَكِّ وَالإِنكارِ مدن أندلسية لم يترك الأقدمون شاردة ولا واردة في فصل الربيع إلاّ وعرجوا على ذكرها ووصفها بأحسن الأوصاف، حتى أنهم وصفوا قوس السماء وألوان الطيف وصورها طبيعة أرضهم في كل من الشام وشمال العراق واليمن، أما الأندلس فكان لها سجل وديوان عامر بقصائد الحب والطبيعة، حتى لقد تسابق شعراؤها على هذا الميدان وتنافسوا عليه في كل زمان ومكان، وهم يصفون جمال المدن الأندلسية ويتباهون أمام شعراء الشرق بوصف طبيعة الأندلس، بل لقد ألفوا الكتب ودونوا أعمالهم الأدبية التي صرفوها للربيع في كتب "أبو الوليد الأشبيلي"، ومنها كتابه الشهير "البديع في وصف الربيع "، كما أنهم استعرضوا من خلال قصائدهم وأشعارهم قدراتهم على وصف الأمطار ونسائم الربيع و"لسان الدين الخطيب" يصدح في موشحته مستجدياً زمن الوصل وأيام الهنا وهو يقول: جادك الغيث إذا الغيث هما يا زمان الوصل بالأندلس لم يكن وصلك إلا حلما في الكرى أو خلسة المختلس وروى النعمان عن ماء السماء كيف يروي مالك عن أنس فكساه الحسن ثوبا معلما يزدهي منه بأبهى ملبس حين لدَّ النوم شيئا أو كما هجم الصبح هجوم الحرس غارت الشهب بنا أو ربما أثرت فينا عيون النرجس هل أروم سؤالا في الوقت الحالي ترك الشعراء لدواوينهم وقصائدهم العنان في وصف ما لم يصفه الأقدمون، بل قد جاء "مصطفى بطران" وليجاري تلك المعاني السامية التي خلدها "أبو نواس" في قصيدة "النرجس" فقال متسائلاً: من يا ترى أعطاك أكبر قوة عجبا وحقا هل أروم سؤالا من ذا الذي سواك تبعث بهجة في العالمين وتسعد الأحوال ثم يجيب على لسان كل مؤمن موحد ليكشف سر جمال الربيع وهو يقول: أنا يا ربيع أراك نفحة خالق وهب الحياة محبة وجلالا إن الذي سواك رب مبدع يهب الجمال لمن يشاء جمالا عدسات المصورين وفي عصرنا الحالي قصّر الشعراء عن بدائع الربيع، وتركوا ذلك لعيون السياح وعدسات المصورين، بل لقد طافت الكاميرا "الفوتوغرافية" و"التلفزيونية" أوجه المعمورة، فنقلت للقاصي والداني محاسن فصل الربيع، واستعرضت مع فنون الرسم التشكيلي لوحة زاهرة، حاول شعراء الجيل الحالي مجارتها، يستلهمون من فصل الربيع أروع الأشعار وأعذب القصائد وهم يتذكرون قصائد الشاعر العباسي "أحمد بن محمد الصنوبري" الذي وصف بأنه شاعر الطبيعة المنفرد في زمانه بوصف بدائع الزهور ومحاسن الربيع الذي استلهم "أحمد شوقي" قصيدة الربيع من عبق شعره وجزاله ألفاظه: آذار أقبل قم بنا يا صاح حي الربيع حقيقة الأرواح صفو أتيح فخذ لنفسك قسطها فالوصف ليس على المدى بمتاح ملك النبات فكل أرض داره تلقاه بالأعراس والأفراح الورد في سرر الغصون مفتح متقابل يثنى على التفاح الشاكيات وما عرفن صبابة الباكيات بمدمع سحاح إني لأذكر بالربيع وحسنه عهد الشباب وطرفة الممراح الانتقال من مكان إلى آخر من أجل الاستقرار في الأراضي الخضراء حتى الحيوانات تفرح بإخضرار الأرض الخروج والتنزه في الأجواء الجميلة قديماً مساحة شاسعة ازدانت في وقت الربيع زهور النباتات الصحراوية تُزيّن المكان عشّاق البر لا يتركون فرصة تحسن الطقس دون إقامة رحلة «شبة ضو» وإعداد القهوة العربية الجيل الجديد يحرص على توثيق رحلاته ونقلها عبر التقنية