حكاية «ليلى والمجنون» في الأصل حكاية عربية، تنتمي من دون ريب الى عصور ما قبل الإسلام، حتى وإن كان ثمة تخمينات وفرضيات تقول انه أعيد الاشتغال عليها شعرياً ورواية، حتى من بعد ظهور الإسلام. وهذه نظرية يدعمها طه حسين في كتابه الشهير والمثير للجدل «في الشعر الجاهلي». الحكاية بالتأكيد عربية، إذاً، ولكن من الواضح في الوقت نفسه أن شعوباً أخرى وكتّاباً آخرين من غير العرب قد اشتغلوا عليها وطوروها وحولوها الى أجزاء من تراثهم الأدبي والعاطفي - وربما اكثر من هذا أيضاً - طوال القرون التي تلت ظهورها في المحيط العربي، في معنى أن مصيرها في هذا السياق يكاد يشابه مصير «ألف ليلة وليلة»، التي ولدت في شكلها الجامع عربياً، ثم انتشرت في العالم كله، الى درجة ان أصحابها العرب بالكاد يعرفونها أو يتعرفون إليها، هذا إذا لم يطلع من بينهم من يرفضها ويحرقها. صحيح ان حكاية «مجنون ليلى» او «ليلى والمجنون» أعيد اليها الاعتبار عربياً في القرن العشرين، فحولت، مثلاً، الى مغناة رائعة لحنها وغناها محمد عبدالوهاب وأسمهان، في صيغة اشتغل عليها أحمد شوقي، مازجاً أشعاراً حديثة بالأشعار القديمة المنسوبة الى قيس بن الملوح (المعروف ب «المجنون»)، كما حولت الى مسرحيات وأفلام سينمائية (كان منها فيلم للتونسي الطيب الوحيشي)، إضافة الى استلهامها في أعمال أدبية حديثة عدة، ولكن في المقابل ظل الإهمال من نصيب هذا العمل القديم المتميز في العالم المعرفي، في وقت كان العالم كله يستلهمه أو يؤممه أو يصيغ على منواله أعمالاً تقترب منه أو تدنو بحسب الظروف وبحسب الثقافات. ومن هنا مثلاً، نجد مخرجاً أرمينياً جورجياً مثل بارادجانوف يحقق أكثر من فيلم تلوح من خلاله الحكاية نفسها («عاشق غريب» مثلاً)، وذلك بعد مئات السنين من كتابة شكسبير رائعته «روميو وجولييت» التي يبدو انها كانت مستوحاة من عمل إيطالي عرف شيئاً عن حكاية ليلى ومجنونها... بل إننا لو تبحرنا في آداب شعوب عدة، لن يفوتنا ان نرى الحكاية نفسها تتكرر، لا سيما في مناطق وسط آسيا التي نعرف أنها تأثرت كثيراً بالحضارة العربية وأثرت فيها. وفي هذا السياق، تحديداً، يكون لافتاً أن نذكر أن الثقافة الفارسية، بالتحديد، وعلى قلم ولسان بعض كبار شعرائها وكتابها، كانت من أكثر ثقافات العالم اهتماماً بهذه الحكاية، شعراً ورواية و... رسماً حتى، الى درجة يمكن معها القول إن فارس كانت هي، لا الثقافة العربية، المكان الذي حفظ الحكاية على مر العصور، ومن دون انكار لأصولها العربية على أية حال. وإذ نذكر فارس وثقافتها في هذا المجال يصبح لا بد لنا من أن نتوقف عند اثنين من كبار الشعراء الفرس اهتماماً بحكاية «ليلى والمجنون»، واشتغلا عليها، وهما نظامي وجامعي. الأول خلال القرن الثاني عشر والثاني خلال القرن الخامس عشر الميلاديين، كما يصبح لا بد لنا من التوقف عند عدد من كبار رسامي المنمنمات الفارسية من الذين انفقوا وقتاً وجهداً كبيرين لتحقيق رسوم رائعة تصوّر بعض فصول الحكاية، ومن أبرزهم آغا ميراك وميرسيد علي وميرزا علي والشيخ محمد. وإن بقيت رسوم آغا ميراك هي الأجمل، إذ ارتبطت بالصيغة التي كتبها نظامي للحكاية. يقول الباحثون ان نظامي وجامعي اشتغلا على الحكاية نفسها، من ناحية الأحداث، ولكن ثمة فارقاً كبيراً بين عمل الأول وعمل الثاني، ذلك ان نظامي (المتوفى في العام 1202) أعاد صوغ الحكاية كما هي، أي انه ركز على احداثها الظاهرة، وبعدها العاطفي واقفاً مع حق الإنسان في الحب، مديناً الأهل الذين سعوا كل جهودهم كي يحولوا دون تحقق اللقاء بين الحبيبين. أما جامعي فإنه استخدم الحكاية في صورة رمزية خالصة، كي يتحدث من خلالها عن «الحب الإلهي» بصيغة صوفية، حيث ان العاشقين يمثلان هنا بالنسبة اليه ذلك الحب السامي الذي تتفانى من خلاله الروح لكي تذوب في الذات العليا. والحال أن هذين البعدين المختلفين اللذين أسبغا على الحكاية نفسها في الثقافة الفارسية، انما يعبران خير تعبير عن المزاج العام الذي كان يعتمل في فارس كل حقبة من الحقبتين اللتين عاش في أولاهما نظامي فيما عاش جامعي في ثانيتهما. ففي عصر نظامي كان شيء من الفكر المادي الدنيوي يسيطر، ايام ازدهار الأوضاع الاقتصادية وبدء ظهور النزعات الإنسانية وصولاً الى انتشار الدعوات الواقعية التي تتعاطى مع شؤون الحياة الدنيا. أما في عصر جامعي فكان ثمة نكوص في اتجاه الغيبيات والصوفية كرد على ما انتاب الأمة من تفكك وعلى ذلك الغرق السابق في الشهوات والدنيويات. وإذا كان العملان قد لاقيا رواجاً واستحساناً لدى أجيال متعاقبة من القراء في بلاد الشرق، فإن ما يجب لفت النظر اليه هنا، هو ان التعامل العام معهما كان واحداً، حيث أن البعد الصوفي السماوي لقصيدة جامعي، ظل بعيداً من تفسير القراء العاديين. ومن هنا تم التعامل معها دائماً - من منطلق شعبي - كتطوير لغوي لا أكثر لقصيدة نظامي، ذلك ان لغة الشعر كانت تطورت حقاً خلال المئتي عام التي تفصل بين زمن الأول وزمن الثاني. ومع ذلك لن يغيب عن بالنا هنا ان القصيدة التي كتبها نظامي حظيت دائماً بشهرة أكبر وبقبول أعم لدى القراء الفرس. ونظامي اكتفى، كما أشرنا، بصوغ الحكاية كما هي في التراث العربي القديم: الشاعر «الجاهلي» قيس بن الملوح، الذي سيلقب لاحقاً ب «المجنون»، يعيش حباً رائعاً مع حبيبته البدوية مثله، ليلى... وهو هنا، عند نظامي، ابن ملك من ملوك الجزيرة العربية... لكن انتماءه الملكي لم يسهل عليه الحصول على يدها، ذلك ان أهل ليلى كانوا يعيشون عداوة حادة مع أهل قيس... لذلك يرفضون تزويجه ابنتهم... فيجن قيس ويشعر بإحباط وألم شديدين، يدفعانه الى محاولة اختطاف ليلى بالقوة، غير ان محاولته تفشل... فلا يكون امامه - كما حال الشنفري وغيره من الشعراء الهامشيين الصعاليك - إلا ان يتوجه الى الصحراء ليعيش فيها وحيداً مع حيواناتها الضارية التي ستكون أكثر حنواً عليه من البشر، ومع مناخاتها المتقلبة التي سيمكنه احتمالها اكثر من احتماله غلاظة البشر. في تلك الأثناء، تكون ليلى تزوجت من شخص آخر، غير انها أبداً لم تنس حبها لقيس، بل انه صار يحدث لها بين الحين والآخر ان تهرب سراً الى الصحراء حيث توافي حبيبها في وحدته ووحشته... ولاحقاً حين يموت زوجها توافيه في الصحراء لتتحد حياتها بحياته نهائياً... ويتزوجان هناك بالعقل، لكن ليلى سرعان ما تموت فلا يكون منه، إلا ان يلحق بها الى القبر حيث يوحد الموت والشجن بينهما، كما ستكون حال روميو وجولييت بعد ذلك بقرون عدة. قصيدة نظامي هذه تعتبر، إذاً، من عيون الأدب الفارسي... ولكن في الوقت نفسه لا تقل عنها أهمية تلك الرسوم الرائعة التي أعطت فن المنمنمات الفارسية ألقه وجماله عبر العصور، ولا تزال محفوظة حتى يومنا هذا، كدليل حي، على ارتباط فن الرسم بالفنون الأدبية في حضارة إسلامية، ليس بالضرورة العربية التي لطالما اعترض بعض غلاة مفكريها المحافظين على ان تشمل إبداعاتها رسم الأشخاص، ومع هذا لم تخل بدورها من رسوم عرفت طريقها الى العيون والعقول، وحفظت عبر التاريخ، حتى من دون أن تصل الى روعة إبداعات رسوم المنمنمات الفارسية، (والمغولية) التي لا شك في أن العدد الأكبر منها يمكن اعتباره دائماً تحفاً فنية تضاهي أروع ما انتجته الإنسانية من لوحات غرامية رومنطيقية. [email protected]