تهب العاطفة للعقل نوراً وللإرادة قوة، لكنها العاطفة السويّة، تلك التي تُعنى بأمر المشاعر الإنسانية الجميلة، وليس أعظم من الحب عاطفة، الحب؛ أشعر أن هذه الكلمة تراجعها دوماً فضيلتي التي تستنطق وتستثار بأبدية لتغييب هذه العاطفة النبيلة، تتكالب عليها القوى القاهرة والجاحدة لخيرية الإنسان لتبغي عليها وتخنق قوتها الأسطورية التي تبعث السلام الداخلي للإنسان، وتنشره خارجه؛ بين الأمم والشعوب على بساط الحق، وبسلطان الإنسانية. عندما أقول عاطفة الحب إنما أروم ذلك الإلهام الإنساني الفياض بكل النعم، فالحب طاقة خلاقة مفعمة بالفضائل، تنير العقل وتلهب الإرادة لبلوغ سماوات العطاء وإسهام تبتلات الخير والسلام. طاش سبيل الكارهين الإرهابيين؛ فغضوا الطرف عن ساديتهم المتأصلة قتلاً وتدميراً، وسعروا هجومهم المتقد بالغيرة والحقد ليعيبوا بكاء حراً على فقد رمزٍ إنساني، ملأ صفحة حياته ببهجة الصفح والغفران كما ملئت بالغدر والعدوان، وأشاع برحمته قيمة العدل على رفات ليالي الظلم والذل فبالمحبة نستلهم "قانون العدالة المقدسة" الذي ندركه بالحدس كما يقول "جون لوك" في تأكيده قدسية الحق الإنساني في الحياة والحرية والسعادة. وينضح الارتباط بين كمال العقل وصفاء العاطفة في بعديهما المضاد في مقولة لفولتيير: " إن الذين يجعلونك تعتقد بما هو مخالف للعقل، قادرون على جعلك ترتكب الفظائع" ذلك أن سقم الانقياد العاطفي يوازيه- سقماً- انقيادٌ عقلي أهوج، ينتج عنه إنسان مرتد على إنسانيته. فالعقل والعاطفة ما أن يرشد / يضل أحدهما حتى يرشد / يضل الآخر معه بالضرورة، فالنتيجة كما هي حتمية بالارتباط، فهي ضرورية بالمحايثة.. إن نور العاطفة الذي يشرق على العقل هو نور يستضيء بحكمة الطبيعة والفطرة السوية التي تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وتأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى" قربى الإنسانية" المنفتح على الخير العام للبشرية.. يسقي الأنام الزلال، ويحيي الأمل بالوئام. فالإنسان متى أهاب الثقة بعقله وعاطفته لا بد أن ينعم بالوصول للخير والسلام، فنحن جميعاً- كما يقول "لوك"- مزودون بغريزة العدل، أي الشعور الذي منحه الله إيانا ليعرف كل منا حقوق الآخرين، وقد غُرِس فينا هذا الشعور منذ الولادة، وهو أحد القوانين المقدسة لوجودنا البشري الذي ندركه بالحدس.. والحدس قياس عاطفي خلقي أصيل، يدركه "الكائن الأسمى"؛ الإنسان، ويعلم صوابيته لكل البشر.."ففكرتنا عن أنفسنا بأننا كائنات تدرك وتعقل وترحم" تسوق العدل إلينا، وتسوقنا إلى العدل.. إنك إن أردت أن تقيس مستوى شعب ما فانظر لعلاقته بالإنسان، وهنا تبرز عاطفة المحبة كمقياس سديد، فأصحاب الألباب بالطبع والجبلّة هم أهل العواطف الطيبة، تستقيم مع الخير طبائعهم كما تتصالح معها طبيعتهم، فعواطفهم متصالحة مع عقولهم، وتعيش في سعادة ورضا دائمين مع شعوب الأرض.. "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" والتعارف كدعوة ربانية لايمكن أن تستقيم إلا في أجواء محبة وسلام، لاعداوة وكراهية ودمار. عندما ترقب الموقف المفارق الكاره للمحبين والمحب للكارهين المربك لوشائجية العقل والعاطفة تعيش توتراً صفيقا يسائل عن الحكمة في عامية الظلام؛ ظلمة الدرب وظلمة المآل، فتلقي بالسؤال العائم على وجهه: إلى أين نحن سائرون!! إن من يستهويه التصادم بين إنسانية تكوينه العقلي والعاطفي يقدس دعاة الكراهية ويضيق برحابة الحب للإنسان، فدائرة انتمائه تطرح دائرة الإنسان الواسعة من حساباتها العنصرية الضيقة، وتضيق بضيق رؤاها إلى مجرد فئة أو فرقة واحدة، وتصبح بانتمائها الفئوي تتغذى على كراهية الآخر ونبذه وإن كان رمزاً إنسانياً نال أعلى أوسمة المجد الإنساني لحب السلام.. ورغم أن الله سبحانه صرح في كتابه الكريم بأنه"لايظلم الناس شيئا" وأن تقديره لا يغفل ذرة خير ولا ذرة شر"فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره"إلا أن المحتدمين بسعير الكراهية المؤلبين والمنازعين والمدافعين عن إعلان كراهيتهم لرجل السلام والحب والحرية نيلسون مانديلا!، صبوا جام غضبهم الأرعن المتوحش على كل شهادة حق لرجل نشأ في رحاب الإنسانية وسار على هدي بركتها مستظلاً بنور العدل والحرية والمساواة.. إنهم لايستريحون حتى يربكوا الإنسان في اعتقاده العادل عن الخلق، عن رؤية إنسانية للكائن الأسمى الذي يرتقي مدارج العدل، لكن عبثاً يحاول أعداء الحق أن يزهقوا حقا؛ "وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض" فستمكث روح مانديلا لأنها تطهرت بعبق المثل الأخلاقية العظمى عن رذائل الإرهاب وإرجاف المرهبين.. فرحمة الله عامة للناس أجمعين"إن الله بالناس لرؤوف رحيم" ورحمتهم فئوية حرجة تضيق بسعة الآفاق.. واقعنا الأليم يكشف عن إرهابنا للطبيعة البشرية ونتائجه المرعبة في حاضرنا تتوعد بمزيد وحشية وطغيان، فحواضن الكراهية تتقلب في أتونها لتشعل ميادين الحياة بالقتل والدمار، وتسأل هل من مزيد!! وقصص الحروب الممتدة بين المسلمين في سورية، العراق، ليبيا، الصومال، السودان، اليمن، وغيرها تتلوى بصراعاتها العقائدية وتشظياتها المذهبية وترقص رقصة الموت على الجثث غير آبهة ولا متراجعة عن غيها الذي تاه في أتون البغضاء التاريخية؛ يشرب الدماء الحرام كما يشرب الماء السلسبيل!! لقد طاش سبيل الكارهين الإرهابيين؛ فغضوا الطرف عن ساديتهم المتأصلة قتلاً وتدميراً، وسعروا هجومهم المتقد بالغيرة والحقد ليعيبوا بكاء حراً على فقد رمزٍ إنساني، ملأ صفحة حياته ببهجة الصفح والغفران كما ملئت بالغدر والعدوان، وأشاع برحمته قيمة العدل على رفات ليالي الظلم والذل، وما هو إلا المجد؛ إذ يرى مانديلا أن"الهدف من الحرية هو السعي لتوفيرها للآخرين" وقد استطاع بالفعل تحرير الآخرين بروحه الأبية على مطامع العصبية والانتقام. ولئن هاج دعاة البغضاء وحراس الكراهية على مشاعر الحب والتقدير لأبرز رموز الإنسانية فما زادوا الفقيد إلا قدراً ولا الحق إلا وهجاً، ويكفى الإنصاف قدراً أن يسكن الأنقياء مكاناً بحضن القلوب، وقدراً يعلو مجرات الكواكب.. لاغرو؛ فأكبر مأساة للإرهابي أن يرى الناس تحب بعضها بعضا، لذلك يحرص على هدم المكون الطبيعي للسلم البشري؛ عاطفة المحبة، فيبدأ بتسويغ عاطفة الكراهية للقطيع التابع كعقيدة انتماء، ثم يغلّب قدح شرها حتى تصبح موجهاً ومنفذا لعمليات الانتحار الإرهابية، ولقد تمثل الإرهاب شاخصاً في أبشع صور الإجرام والوحشية متدثراً بنشوة الإرهاب وشهوة القتل في حادثة تفجير مستشفى يغص بالأنفس في اليمن مخلفاً جريمة بشعة تشهق بالدمع والدم، جريمة وحشية لا تفرق بين مريض وطبيب، ولا بين ممرضة وزائر، ولا طفل وشيخ، إنه الإرهاب في أشد حالات عماه؛ العمى الأيديولوجي تنظيراً، والعمى السلوكي تفجيراً وتقتيلاً. الناظر لحال المسلمين اليوم يدرك الاختلال العام؛ اضطراب عقل يحايثه اضطراب وجدان" لهم قلوب لا يفقهون بها"، فالفطرة إيمان الوجدان، وهي مصدر استفتاء المسلم عن الحق والاطمئنان به "بلى ولكن ليطمئن قلبي" والقياس ببرهانه"إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب" والفلاح بسببه"إلا من أتى الله بقلب سليم" وهي رسالة الرسل والفلاسفة والمصلحين لقداسة الحق المستلهمة من طبيعة الإنسان. ومنذ أن فك الارتباط الطبيعي بين الشأنين الملهمين لتكوين إنسان طبيعي يحب أخوته في الإنسانية، ويؤمن بحقهم في الوجود والاختلاف والحرية، ونحن نرفل بعبث وجودي، يوجه التضليل للعقل ويطفئ نور العاطفة بنار الكراهية والحقد، لنفيق على إنسان يهدم أخاه الإنسان وينابزه ويشاحنه ويقصيه ويقاتله، ويصادر حقه في الوجود كما صادره في الحرية. ولئن كانت أبسط مكونات الوعي وأهم شروط الاستدلال تتوقف على عقد المقارنات لاستخلاص النتائج، فالمقارنة اليوم بين المجتمعات المسلمة العربية بالذات وغيرها من المجتمعات الإنسانية يهيل أسئلة الحق بلا انتهاء، وبلا أفق يبشر بقرب نجاة. ولأن السلوك يعقب التنظير ولا يسبقه فقد آن الأوان لإغلاق محاضن الإرهاب التي تعمل على بث الفكر التكفيري المتشدد، ومنابره المنتشرة في القنوات الفضائية التي ملأت الحياة برذيلة التكفير الإرهابية، ثم إعادة الاعتبار الحقيقي لعلم الفلسفة التي هي في مجمل فضائها تأييد القيم العليا، فالرسالة الخلقية باتت حاجة ماسة لمن ينقذها من إرهاب الفكر والجسد، فمعظم اعتقاداتنا المتعلقة بأمور حيوية كالدين والأخلاق غير نقدية بصورة واضحة، والفلسفة تأخذ على عاتقها مهمة البحث الفاحص في الاعتقادات التي نكون قد قبلناها بطريقة غير نقدية من سلطات متعددة، فتفندها وتخضعها للنقد والتحليل. ليس هناك من هو فوق النقد، فالنقد هو الجهد العقلي والعملي لعدم تقبل الأفكار وأساليب الفعل والسلوك والظروف الاجتماعية والتاريخية تقبلاً أعمى، ما يتطلب معه تحليل كل تراثنا الثقافي والاجتماعي والسياسي، فالنقد جهد يبذل للتوفيق بين الحياة الاجتماعية، وبين الأفكار والأهداف العامة للعصر، بغية الخروج برؤية إنسانية تؤازر الحق وتناسب العصر. فممالا شك فيه أنه عندما تكون متطلبات العصر مغيبة أو شبه منعدمة فذلك بأثر تغييب النقد وتأييد الجمود على السائد.. ليكن كل إنسان "غاية في ذاته" كما يدعو إيمانويل كانط، بدلاً من أن يكون أداة في يد غيره، فليس هناك أبشع من أن يخضع سلوك إنسان لإرادة إنسان آخر.. وذلك سبيل النجاة الذي لاسبيل له إلا بإعادة الاعتبار للفلسفة.. رحيق الإنسان ونشوة الحرية.