النزعات النزقية المتلبسة بالعنف الغوغائي تجد لها مكانة عند المتلقي الجماهيري الذي تمت محاصرته في دوائر هذه الثقافة المتخلفة المعادية للعقل. ولهذا لم يكن الخطاب الغفوي الذي ساد حينا من الدهر إلا تفعيلا لهذه الثقافة البائسة، واستثمارا للمخزون القيمي الكامن فيها بلا تردد؛ نستطيع الجزم بأننا لم نحسم بعد معركتنا مع التطرف الذي ينخر في جسدنا الاجتماعي بلا رحمة، وأن كل محاولاتنا رغم جديتها لم تستطع أن تكف عنا غلواء المتطرفين الذين استباحوا العقل الجمعي على حين غفلة منا؛ إلى درجة أن خطابهم المأزوم غدا قادرا على اشعال بؤر التوتر في كل مناسبة، بل ومن غير مناسبة، وكأننا قد فرغنا من كل أزماتنا وإشكالياتنا النظرية والعملية، ولم يبق لنا إلا ضبط نَزَوات النَّزَق، وكبح جماح الرُّعونة العمياء، وتخفيف حِدّة خَطَرات الجنون التي تتلبس (الشَّغَاسِبَة) المُتَشبِّعين بما لم يُعطوا في كل حين. لم نتحرر بعد ولو في الحدود الدنيا المعقولة من أعباء ثقافة غوغائية موروثة، ثقافة موغلة في التخلف من حيث هي موغلة في ازدراء العقل، بل وفي التحريض عليه، إلى درجة مُطاردته ببث محاكم التفتيش على امتداد تاريخنا الطويل لتتبع آثاره وآثار مُمَثّليه في الخطاب وفي التاريخ / الواقع. إن هذا الاستئسار الثقافي ليس حالة عابرة، ليس استثناء يُواجَه بأصل مطرد. بل هو على العكس، يقف كأصل مطرد، بينما تقف محاولات التحرر وكأنها هي الاستثناء الذي لم يكتب له النجاح حتى الآن. لقد بقينا نتماهى مع كل خطاب مناهض للعقل؛ ما دام يضرب على أوتار عواطفنا الساذجة، حتى لو كان خطابا في صورة تطرف مجنون، إذ نحن لسذاجتنا المستمدة من وحي ثقافتنا الساذجة لا نستريب ولا نتساءل ولا نعترض؛ عندما يُواجهنا خطاب التطرف والتخلف مُمليا علينا شروطه بكل صلف، بل ننساق وراءه عُميًا وصُماً وبُكماً طائعين، أو كارهين كطائعين ؛ لأنه هو الخطاب الذي يستجيب لحاجتنا التي صنعتها ثقافتنا الأولى، لأنه هو الخطاب الذي يستنهض فينا الأنساق الثقافية المطمورة التي تستطيع إشباع رغباتنا البدائية في التنرجس والتبجح والاستعراض الفارغ، فضلا عن الرغبات القميئة المتأججة ذات النفس السادي التي لا يَهدأ أُوارها إلا بإذلال الآخرين. لا شك أن إرادة الهيمنة هي تفريع على هذا الأصل الغرائزي المتمثل في إرادة إذلال الآخرين. وما طرح مسألة (قيادة البشرية) التي وجدت رواجها في الخطاب القطبي (= سيد قطب، ومحمد قطب) الذي ألح عليها أيما إلحاح، إلا تعبير عن هذه الإرادة الغرائزية البدائية التي لا ترى لوجودها معنى إلا في الهيمنة الأممية، التي يجري تلطيفها بنقلها من محور القهر إلى محور الريادة أو القيادة. غير أن هذا النقل لا يستطيع نفي أصل التصور المبني على تطلعات غرائزية بدائية، تتفاعل مع أردأ ما في الغرائز، أي مع الغرائز في تمحوراتها الأنانية؛ لأن تمايزها عن كل سياقات التعقل التي تمتلك وحدها القدرة على ضبط حراكها؛ يتركها نهبا لغوغائيتها ذات النفس الأناني البدائي التي لا تكتفي بظلم الآخرين فحسب، بل تستتبعه بالتأسيس له في الخطاب الثقافي العام، وتحديدا في أعلى مستوياته قداسة. وبهذا تتحول حتى الغرائز البدائية ذات المنحى الإيجابي (مثل كراهية الظلم وازدراء الطغاة) إلى غرائز متوحشة تتماهى مع صنمية الطاغية، وربما منحته أعلى درجات التبجيل والاحترام، فلا تبدأ ذكر اسمه إلا بسيدنا: فلان! هذه النزعات النزقية المتلبسة بالعنف الغوغائي تجد لها مكانة عند المتلقي الجماهيري الذي تمت محاصرته في دوائر هذه الثقافة المتخلفة المعادية للعقل. ولهذا لم يكن الخطاب الغفوي الذي ساد حينا من الدهر إلا تفعيلا لهذه الثقافة البائسة، واستثمارا للمخزون القيمي الكامن فيها. إن الزمن الغفوي بكل عنفوانه المتوحش لم يأت من فراغ، ولم تكن الرؤى السالبة التي عممها من اختراعه، بل هو مجرد مستثمر ناجح في هذا المجال الخصب الذي كان يعاني شيئا من الإهمال، وخاصة في بدايات عصر النهضة العربية الحديثة التي حاولت التعانق مع ثقافة الآخر، فجاء هذا الخطاب الانكفائي الانعزالي مُفعّلا لقيم الجهل، ومراهنا على ثقافة النقل، ومحاربا شرسا وغبيا لكل تجليات الخطاب العقل الذي كان للتو قد بدأ يأخذ طريقه إلى عالمنا العربي المجدب بعمق التاريخ وباتساع الجغرافيا، والمتشرذم، بل والمتصارع بعمق اتساعهما أيضا. إنها حالة نكوص وارتداد. إننا لم نكد نستشعر الأمل لكوننا قد تقدمنا خطوة إلى الأمام، وخاصة في الفترة الذهبية التي سادت فيها الليبرالية العربية، فجاء الانبعاث الأصولي الأهوج لينقلنا خطوات إلى الوراء. انتكسنا، بل ارتكسنا في الضلالة العمياء والجهالة الجهلاء، وبقينا تائهين تتقاذف وعينا الحائر تخبطاتُ الأغبياء الحالمين، وتصنع ذائقتنا الجمعية نزوات المتوحشين، وتحدونا بعنف مقدس كوابيس المهووسين بأزمنة الغزو والسلب والإرهاب. للأسف هذا هو واقعنا الثقافي / المجتمعي، وهذه هي هويتنا المُعلنة بتجليات القول والفعل. ومَن يشك أو يتشكك فيه، أو فيها فلينظر ذات اليمين وذات الشمال؛ ليرَ بؤس التلقي الجماهيري لكل مظاهر اللامعقول واللا حضاري واللا إنساني في واقعنا. مَن يشك في هذا؛ فليتأمل كيف أصبحنا مصدر إزعاج لهذا العالم، إلى درجة كاد فيها العنف أن يكون هويتنا الأشد سطوعا؛ بعد أن خرج مجانين الحراك الأصولي المنتسبين إلى ثقافتنا شئنا أو أبينا معلنين الحرب على العالم أجمع، لا بالكلام فحسب (وهو الأعم والأغلب، كما وأنه المقدمة الضرورية لعنف الفعل)، بل وبالقتل والتفجير أيضا. طبعا، نهرب من هذه الحقائق المرة والفاضحة بأن نعلن رفضا لها، ونقول عنها إنها أعمال فردية، واستثناءات عابرة، لا تعكس حقيقة ثقافتنا. نقول هذا، ولا نتساءل لماذا أصبحت الغالبية الساحقة من أعمال العنف الإرهابي لا تصدر إلا عن مسلمين، لماذا لا تصدر عن صينيين أو يابانيين أو برازيليين أو فرنسيين أو بولنديين...إلخ؟! لماذا يقبع خلف معظم الأعمال الإرهابية تبريرٌ أصولي يُحيل إلى تصور ديني مرتبط بنا، فضلا عن كونه يقع بفعل فاعل ينتمي إلينا دِينا وعقيدة ؟! لماذا ثقافتنا وحدها ومن بين كل الثقافات العالمية هي التي تفرز هذه الكراهية المتأججة للحضارة المعاصرة ولممثليها دولا وشعوبا، وكل بحَسَبه؛ فكلما كانت الدولة أو الشعب من ذوي الريادة في التأسيس والتمثيل؛ كان حظه من الكراهية ومن العنف المبني على الكراهية أوفر، وكأن كل إسهام في هذه الحضارة الرائدة هو إسهام في جريمة نكراء لا تستحق غير العقاب. ولو كان التورط يقف عند هذه الحدود لهان الأمر. أي أن التورط ليس مرتبطا بهوية الفاعلين فحسب، بل الأعمق دلالة هو ما يصدر عن المُبررّين الذي يبررون مثل هذه الأعمال صراحة، أو حتى ما يصدر عن أولئك الذين يترددون في الإدانة؛ فتأتي إدانتهم باهتة لا تلمس فيها الإدانة الصريحة الجازمة للإرهاب، كما لا تلمس فيها روح الانحياز الكامل للإنسان ولكل ما يعزز قيم الإنسان. يترددون في إدانة الإرهاب، وإن أدانوه يترددون في تجريم مبرراته الثقافية، بينما تجدهم في الوقت نفسه مستنفرين غاية الاستنفار للدفاع عن كل جاهل أهوج يمارس غوغائيته الثقافية في إرباك أو إفساد المهرجانات الموسمية، مخترقا الأنظمة والقوانين، وملوحا بالعنف (وبعضهم مارسه في مناسابات سابقة على هيئة هياج جنوني)، ذلك العنف الذي يستمده من ثقافة تمنحه هذا الحق المقدس في فرضة رؤيته الخاصة على الآخرين. ومرة أخرى نقول: إن حالات الإرهاب، والعنف، والهياج الأرعن المتبدي في ممارسات الشغاسبة، هي حالات فردية، ولكن الموقف منها ليس موقفا فرديا، فمعظم أطياف الخطاب الأصولي تقف بكل وضوح مع هذه الممارسات الفردية، داعمة ومؤيدة بأقصى ما يمكن من فعاليات اللدعم والتأييد. وهذا يعني في النهاية أنها ليست حالات فردية حتى وإن بدت كذلك، إنها ممارسات ثقافة؛ لا ممارسات أفراد، ممارسة ثقافة لا تزال في عمقها وفي تجلياتها الظاهرة عبثية وغوغائية ومكتنزة بكل رؤى العنف، فضلا عن كونها مستعرة بكل النزوات البدائية التي لا تجد إشباعها إلا في استباحة حريات الآخرين. ما نراه من مظاهر العنف المُخَفّف، أو العنف الناعم (إن أمكن وصفه بذلك)، العنف الذي نراه في ممارسات الوصاية على الناس حتى في أفراحهم واحتفالاتهم، هو الصورة المبدئية للعنف الإرهابي المدمر. مجرد أن نمنح بعض الصبية إحساسا بأن لهم الحق في التدخل في شؤون الآخرين، ومن ثم التحكم في خياراتهم، فنحن نضع الأرضية العقلية والسيكولوجية التي لا بد أن تخرج لنا متطرفين ينتهجون العنف بمستويات متعددة، منها ما يقف عند حدود العنف اللفظي، ومنها ما يواصل مسيرة بؤسه ليجد نفسه منخرطا في عمليات القتل والتفجير. إن ثقافة معطوبة كهذه الثقافة يستحيل عليها أن تتواءم داخليا بين مكوناتها، كما يستحيل عليها أن تسالم الآخرين وتتعايش معهم ولو في الحدود الدنيا التي تضمن السلام الاجتماعي. ثقافة تمنح صبيانها مشروعية العنف في توجيه الآخرين، يستحيل عليها أن تصنع منهم أناسا أسوياء قادرين على التفاعل الإيجابي (المبني على الاحترام المتبادل، دونما وصاية من أحد على أحد) مع غيرهم؛ لأنها لا تعرف أصلا بدهيات حقوق الإنسان، والتي من أهمها أن إنسانية الذات (والحرية شرط الإنسانية الأول) لا تتحقق إلا مشروطة بتحقق إنسانية الآخرين. كثيرا ما نتساءل: لماذا لم يظهر لدينا وعلى امتداد تاريخنا الطويل رجل بحجم المهاتما غاندي، أو نيلسون مانديلا، أو مارتن لوثر كينج، مفترضين أن ثقافتنا قادرة على إفراز أمثال هؤلاء الأفذاذ، نطرح هذا التساؤل المتفائل جهلا وسذاجة؛ وننسى أن الثقافة الغوغائية التي تهيمن على العقل الجمعي لدينا، هي إما ثقافة منحازة إلى خيارات العنف ضد الآخر صراحة، وإما ثقافة لا ترى في هذا العنف كبير خطأ، فلا تدينه إن أدانته إلا بما يشي بالتبرير. بينما هي كما تُعرّيها وتفضحها فعاليات التلقي تتفجر حماسة وشراسة وعنفا في القول وفي الفعل لأتفه الأسباب، حتى ولو كان السبب / المثير مجرد أغنية عابرة وربما تافهة تحاول اختراق سديم الحزن في زمن الحرمان.