في الوقت نفسه تقريباً الذي أعلنت فيه الجهات الأمنية القبض على المتهم الأخير في قضية تحرش (مجمع الظهران)، عقدت وزارة الشؤون الاجتماعية عدداً من ورش العمل بهدف الخروج بتصور نهائي للائحة التنفيذية لنظام الحماية من الإيذاء، والتي يدخل ضمن بنودها حماية المرأة في الفضاء العام من التحرش والمضايقة. وهذا التزامن يجعلنا نتلمس الخطوات الجادة التي تخطوها الجهات المعنية في حسم قضية حساسة وخطرة اجتماعيا، ومن الممكن أن يؤدي التساهل والتسويف وعدم تحديد المرجعيات التي تقاربها وتتصدى لها إلى أضرار بل وشرخ في بنيان المجتمع. وفي قضية تحرش المجمع سجلت المؤسسة الأمنية نجاحات سريعة وحاسمة، بينما الجهات الأخرى المعنية بالموضوع، مابرحت مترددة حتى عن تفسير المشهد ومنحه المزيد من الضوء، فمن تغاضٍ وسكوت عنها أو الانغمار في فتاوى قيادة المرأة للسيارة. مما جعل الموضوع على المستوى الشعبي مستباحاً وتتقاذفه أطروحات منحرفة (سيكوباتية) منها تسويغ فعل التحرش بمبررات مشينة تضع اللوم على الضحايا اللواتي استفززن الشباب، ضمن أبجديات خطاب متطرف همجي يجد في التحرش وسيلة لضبط المرأة وردعها وإعادتها....إلى منزلها وصوابها معا. ومع الأسف هذا الخطاب موجود ونشط ويتبدى وجهه الحقيقي على وسائل الاتصال الاجتماعية، وقد وصل إلى حد التأصيل الشرعي (للتحرش) مستعينا بحادثة شاذة في التاريخ الإسلامي. وعندما يزعم أحدهم بتأصيل ظاهرة التحرش شرعياً فإنها تدخل دائرة (المقدس /التابو) فالخطاب هنا ارتدى حلة دينية وأصبح فتوى ذات سلطة على المجموع والعديد من المستقبلين لها يتلقونها في حالة من تغييب العقل والاستسلام الراضخ لها، بل قد يجدونها مسوغاً ومبرراً لجوانب مظلمة ودموية في أعماقهم. الكثير مما يصب في حقول النشاط الفكري لدينا يكون مشبعاً بحمولة اقصائية عنيفة ضد المرأة، ويحمل في أعطافه العديد من المواقف الجاهلية، هذا الخطاب قد دأب على غرس الألغام في مسيرة النساء موقظاً بهذا متلازمات الوأد والاستئصال بتطبيقاتها الحرفية. وبالتالي هذا النوع من الطروحات هو الذي يصب في اللاوعي الجمعي ويغذي ويؤجج نزعة العنف ضد المرأة، ويكرس الصورة الذهنية عن النعجة المستباحة التي انتجت المشاهد البشعة لتحرش (مجمع الظهران). والتسويغ والترويج بل التأصيل الشرعي للعنف ضد النساء يندرج ضمن جرائم العنف الفكري، الذي أشار له نظام (الحماية من الإيذاء) وبخروج اللائحة التنفيذية إلى الضوء، يجب محاكمة ليس الفاعل فقط بل المبرر والمسوغ له. لأن هذا الخطاب لا يكتفي بتلويث الجو العام ضد المرأة وعرقلة خطواتها نحو تمام حقوق مواطنتها وتمكينها، بل يحرص على تلطيخ جميع المكتسبات الحضارية للنساء.... كاقترابهن من صناعة القرار في مجلس الشورى، أو مشاركتهن في برامج الابتعاث، أو توسيع دائرة التوظيف لهن. حادثة (مجمع الظهران) هي سبب وليست بنتيجة، وهي إحدى مخرجات سنوات متصلة من خطاب الوأد الجاهلي.