(بيني وبينك يا غالب المحكمة) عبارة تشد المتلقي وتحفزه على أن يقف ليبحث عن سبب الخلاف والتهديد بالمحكمة، التي لا نسمعها إلا في حالة استعصاء الأمر ووصوله إلى طريق مسدود. إنها قضية بين الأخوين حيزان وهو الأخ الأكبر وغالب وهو الأصغر وأما بر الأم فهو محل التسابق عليه وعدم التنازل عنه، والمحكمة هي التي تفصل في القضية إنها قصة أو موقف مشرف أو قضية اجتماعية من نوع فريد، أوردها أخي، الزميل: سعود المطيري في محليات الرياض في عدد سابق، وكانت هاجسي الذي تردد وتكرر مقتحما كل وقت يمر بي، وفاتحاً كل أبواب التذكر لها ومعترضا كل طرق الغفلة عنها أو النسيان لها، ملحاً هاجسي علي بالحضور بها هنا مرة أخرى، ترددت القصة في مخيلتي كواقع عجيب قريب حبيب إلى القلوب الرحيمة، إنه نزاع ولكنه من أجمل ما وردت فيه كلمة نزاع حيث تعودنا عدم ورودها في محل القبول والرضا بل لا يذكر النزاع إلا فيما يكره، إلا في هذه المناسبة، نوردها هنا محل شاهد بر وخلق رفيع، والبر أعلى درجات الترابط والتواصل وأسماها. جميل أن يطلعنا الزميل سعود على الفصل في القضية فيقول: (كانت الخصومة بين حيزان وشقيقه الوحيد. لم يكن مصدر خلافهم على مال أو عقار كانا يتنازعان على بقايا امرأة لا يتجاوز وزنها الحقيقي 20 كيلو جراما هي والدتهم المسنة التي لا تملك في هذه الدنيا سوى خاتم من النحاس في أصبع يدها. كانت المرأة في رعاية ابنها الأكبر حيزان الذي كان يعيش وحيدا وعندما تقدمت به السن جاء شقيقه الآخر الذي يسكن مدينة أخرى ليأخذها حتى تعيش مع أسرته ويوفر لها الخدمة والرعاية المطلوبة. رفض حيزان بحجة أنه لا زال قادرا على ذلك وأن شيئا لا ينقصها. اشتد بينهما الخلاف الذي وصل في نهايته الى باب مسدود استدعى تدخل المحكمة الشرعية لفض النزاع قالها حيزان في حينها (بيني وبينك حكم الله يا غالب) يقصد شقيقه. توجها بعدها لمحكمة الاسياح لتتوالى الجلسات وتتحول الى قضية رأي عام على مستوى المحافظة (أيهما يفوز بالرعاية) وعندما لم يصلا إلى حل عن طريق تقارب وجهات النظر طلب القاضي إحضارها للمحكمة لتحسم الأمر وتختار بنفسها من تريد. في الجلسة المحددة جاءا بها يتناوبان حملها في كرتون وكأنها طائر نزع ريشه ووضعت أمام القاضي الذي وجه لها سؤالا لا تزال هي رغم تقدمها بالعمر تدرك كل أبعاده. أيهما تختارين يا أم حيزان؟ لم تكن الإجابة أفضل من كل محاولات تقريب وجهات النظر نظرت إليهما وأشارت إلى حيزان قالت هذا(عيني هاذي) (وذاك عيني تلك) ليس عندي غير هذا يا صاحب الفضيلة. هنا كان على القاضي ان يحكم بينهما بما تمليه مصلحتها مما يعني ان تؤخذ من حيزان إلى منزل شقيقه. في ذلك اليوم بكى حيزان حتى لتعتقد انه لم يبق من دموع تغسل بقايا حزنه وبكى لبكائه شقيقه وخرجا يتناوبان حملها إلى السيارة التي ستقلها(يرحمها الله) إلى مسكنها الجديد) انتهى. أجزم أنها لم ولن تكون الحالة الوحيدة الفريدة في شأن البر بالوالدين، والتسابق بين الأولاد من أجل البر بهما، وإن كنا نراها كذلك ولم يصل إلينا صور مشابهة لها، ولكنها بلا شك نادرة ولم نطلع على مثلها، وإلا فإن المجتمع يجري فيه الكثير من قصص التنافس في البر والصلة والتراحم والمودة وتكون في حيز العائلات وبين أفرادها ولا نعلم إلا بما ينشر منها ويقال على سبيل الإخبار أو القصة. إن حق الوالدين كبير، سواء كانا في قوتهما أو في حال ضعف، ولكن يتوجب البر والاهتمام أكثر وأكثر في حال الضعف والشيخوخة والحاجة متى ما كانت، وقد لا يعلم الأولاد أهمية والديهم إلا بعد فقدهم أو بعد أن يكون لهم ولد يتبين فيما بعد مدى تعلقهم بهم وحاجتهم لهم. وفي ميدان الشعر قد يغفل الكثير من الشعراء عن تجسيد تلك العلاقة الحميمة وتصويرها والتوقف عند ضرورة التعبير بإحساس مرهف عن مكانة الأم والرحمة بها وتقدير مكانتها وكذلك الأب، ليس جحودا ولا إنكارا للمكانة ولكن غفلة وانسياقا وراء أغراض عدة من مدح وهجاء ووصف وفخر فتجرفهم الحياة ويطول بهم الطريق ويبتعدوا في ساحة واسعة تأخذهم ببريقها، فلا نجد إلا القليل من الشعراء من عبر عن مكانة الأم والأب، ولكننا عندما نجد مثل هذه القصائد نصطادها بفرح وتأسرنا هي أيضا بمعانيها وصدق إحساس قائلها، لأن القصيدة في الأم أو الأب لها مذاقها المميز فيتجاوب معها شعور وإحساس المتلقي بشكل تلقائي ويتقبلها بتشرب منقطع النظير لتوافقها مع فطرة الإنسان في محبة الصدق والوفاء. فمن قصائد الوفاء للأم قول الشاعر معيض الزهراني: أمي، ومن غيرها يسكن شراييني تجري مع الدم ضحكتها ودمعتها عيونها دمع عيني لا بكت عيني سعادتي في سوالفها وضحكتها هي كنزي الغالي وخلقي وتكويني أمطاري دعاها والغيم نبضتها ويقول الشاعر أكرم الحربي في والده: تسلم يدين صافحت كف يمناك ويسلم جبين ما انحنى للخطايا تسلم لنا يابوي تسلم ونفداك كل البشر تفداك شيب وصبايا جيتك أسوق النجم وطيور لفلاك جيتك أسوق الطيب ويا الهدايا حتى قال: جيتك أسوق حروف تطلب تمناك جاتك تقول سالم سيدي ومنايا يسلم لنا راسك وضحكه ثناياك تسلم لنا يابوي ذيك الثنايا أبشربنا يابوي درعك مع غطاك وإلا على يمناك حوض المنايا أما الشاعر الكليف ينطق اللقب بالتصغير( كُلَيْف ) وهو من شعراء القرن العاشر أو أول الحادي عشر فيقول في قصيدة طويلة تشرح نفسها، قالها بعدما خرجت أمه من بيته إلى بيت أخيه لسبب ليس له علاقة فيه لكنه سبب له الحسرة وحزن القلب فبات في هاجس معها وأهمه ذلك فقال: ليتي مع الموتى تقدمت ما رأت عيني افراق اللي عسى الله يثيبها ويأخذ بياديها إلى هي على البقا مع طول عمرٍ فيه وأنا حبيبها حتى قال: فلا هزّني أو خلّ بالحال مثلما سيرة سواة أمّي بمن يختشي بها خوف العقوبة من الله والحيا عند الملا بظهورها من حكي بها على غير مزعولٍ زعلها فناضني تيمّم هواها دار غيري وهي بها عندي بعزٍّ طول عمري وعيشة فيها الهنا منّي ولا هقوتي بها ترخص بلاما من له الوجد قد برى جسمٍ وانا بالوجد كنّي عطيبها مصابٍ بفرقا من ليس مثلها عندي، ولاحيٍّ يجاري خطيبها هي نور عيني ثمّ روحي ونعشتي وهي النفس واسقام حالي غطي بها وهي الرجا والخير في شوف من عسى ربي بعلم أسرار لطفه يجي بها وياذن بجمع لامها لي على الرجا بحسن الرضا معنا عسى اليوم طيبها يضفي علينا عن غلطها بتيهة منها على غير القدا وارتجي بها تسمح لهيدٍ قط ماداس زلّه فيها وهي تدري بجاري نديبها من هو لها مثلي ليا خشّ مانظر بالبيت غير امّه وجا يحتظي بها حتى قال: الأم حقي عاد مثلي إلى ندت على سنّ عمري فيه ترجي لبيبها حناها الكبر عنده وصارت لكنّها كما فخّ حبالٍ بالأيدي حني بها يدخل يحبّ الراس والعين واليدا والى ظهر للسوق ماشن يريبها فيا عين لا تبكين مالٍ ولو غدا عني ولا تبكين حلوى قضي بها فيا طال مايمناي قد حاشت الغنى وسرّت بتفريق العطايا قريبها وياطال مانفسي بجودٍ إلى لفت من غيبةٍ بالجود قد سرّني بها وغضّي نظير الطرف عنها كرامة وكسري جناح الذل خوفي حسيبها حيثه على حثّ الرضا قال من بغى يرضين برضى والده وارتضي بها ولي جنّةٍ بالفوز للناس بابها باقدام والد حيّ من هو حظي بها فالله بحق البيت والحلّ والحرم وبحق رسله والنبي والذي بها له جاه قدرٍ عند مولاه والذي أنزل على طه لمن يهتدي بها هذا جناب أمّي عن الغيظ بعدما نحتني بلام البعد وأنا التوي بها وابرم دواليب الرضا حيث قصّرت حرفات نفسي عن ملاقا ثويبها وقد صار في قلبي من الوجد ماثنى عزمي ونار الوجد يسعر لهيبها بجاشٍ عندي للدوب ياعين منتهى فياعين ابكي عين من ينبكي بها ابكي على من شرّف الله قدرها بالدمع دمٍّ ثم هلّي سكيبها هلّي دموعٍ مهملاتٍ على الجفا لو قرّحت من طول هامي صبيبها حتى قال: امّي سراج البيت ياعين بالكرى تلقى نجوم ٍقاصداتٍ مغيبها سهرٍ ولا للنوم ياعين رغبة عندي ونفسي بالرجا ترعوي بها إنها قصيدة تبكي حروفها ومضامينها قلب وعيون من يتلقونها بإحساس شاعرها، أو بشعور يدرك معزة الأم ومكانتها، وتخالط فؤاده معاني الرحمة والوفاء.