من روعة ديننا الإسلامي أنه حتى الموت لا ينهي العلاقة الراقية بين الآباء والأبناء (من ذكر وأنثى) فإنه إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث (.. وولد صالح يدعو له) كما أن صلاح الآباء كثيراً ما ينفع الأبناء (وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك..) الآية.. الكهف 82. إن الله أرحم الراحمين أنزل من رحمته جزءاً من مائة جزء فيها يتراحم البشر والوحوش وكل موجود له قلب يخفق وعين تدمع ووجدان يرق ويرحم.. أنا يا بوي أبي شوفك لأنك بك أثر محسوس، وإلى شفتك مع أخواني واخياتي ألاميها (نوف عبدالله) والبشر عامة، والأسر خاصة، يلتم شملهم ردحاً من الزمن يمر مرور البرق، ويتساقط رفاق الدرب، وعمدان الأسرة، خاصة الأم والأب، ولكن كرماء الرجال والنساء تمتلئ حناياهم وخلاياهم بحب أحبابهم الراحلين، والدعاء لهم بظهر الغيب، وتعطير ذكراهم بالود والخير، ويتحد الأحياء من أحباب الراحلين متواصين بالبر والتقوى، متحدين في وجه المصائب متسلحين بالحب والصبر، فالقلب يحزن والعين تدمع ولا نقول ما يغضب الرب.. وفي ديوان (ما لم تقله الخنساء) نجد قصائد وفاء وحب من ابن لأب شاعت في الأرجاء والأنحاء، وكأن الأحزان حرقت أصالة الوفاء في قلب الابن ففاحت كعود زاده الإحراق طيباً: «رغم المنون فلم تَزَل يا والدي حيا تنهنه قلبي المستاء الخطب أفدح من دموع محاجر تنعيك أو تبكي لك الندباء والموت للمخلوق حق نافذ لا ينتقي المرضى أو البؤساء أجل يقرره الإله وإنما نحيا على هذي الدُّنى غرباء من يتعظ بالموت يدرك من وَهَب الحياة يردها ما شاء والله قد جعل الحياة وسيلة يتزود (التقوى) التقي، وقاء واستأثر الرحمن بعض عباده بخصائص جعلوا بها أكفاء لوفائهم وجهادهم وثباتهم وسموِّهم، أكرم بهم شهداء فلدى الإله ينعمون برزقه لا يشتكون الضر والبأساء والمؤمنون ثوابهم من ربهم جنَّات عدن، والنعيم جزاء هذا الذي يضفي على أرواعنا أملاً يشع وحسناه دعاء بُشراك يا أبتي لصبرك.. إنما يجزي الاله الصابرين وفاء لله كم من ميزة خلقتها تأبى نسلِّط نحوها الأضواء طبقت قول الله فعلاً بعد ما علّمته الاخوان والأبناء..) هكذا يرثي الشاعر عبدالله بن سالم الحميد أباه - رحمه الله رحمة واسعة - مجلياً في أكثر من قصيدة أثر تلاحم الخير بين الأسرة، وانتقال الصلاح من الآباء للأبناء، واتحاد المفجوعين برحيل عمدة الأسرة على اكمال مسيرته والتعاون على البر والحب والتلاحم لاكمال مسيرة الخير.. والحياة طريق دعم مملوء بالمصائب والفقد، لهذا يقف المسلمون بعضهم مع بعض عزاء وتضامناً، ويتسلحون بالصبر والرضا بالقضاء، ويتذكرون مصابهم العام بأفضل الرسل والذي أمر بالدعاء والصبر: «إصبر لكل مصيبة وتجلّد واعلم بأن المرء غير مخلد وإذا ذكرت محمداً ومصابه فاذكر مصابك بالنبي محمد هكذا يعزي الشاعر صديقه في أبيه محمد، مذكراً إياه بمصاب الأمة الجلل بوفاة خاتم الأنبياء والرسل عليه أفضل الصلاة والسلام، هنا يختلط الوجدان الخاص بالعام.. وحين تنتقل إلى رحمة الله ربة الأسرة، وتترك زوجاً مفجوعاً وأبناء وبنات حزينات توحش الأرجاء والأنحاء ولا يبقى غير العبرة والدعاء والذكرى: يقول شاعرنا عبدالله المقحم في رثاء زوجته رحمها الله رحمة واسعة: «فزّيت أنا من مرقدي ما تونيت يوم ان بقعا بامر ربي وطتني شالت عني جادل ريس البيت خلتني وحيد فانا وحدتني قدام عيني كلما اصبحت وامسيت ولا أعلم في حاجة كلفتني وَعَزّ الله أني لها ما ترديت لو كان دنيايه هي ما أسعفتني» ويرثي عبدالله الحميضي زوجته رحمها الله بشعر يسيل بالحزن والوفاء الأصيل: «فمان الله يا منيره عساك بجنة الفردوس عسى بنتك مع وامك تمشي في نواحيها انا ودي بكلمة منك نسمعها ولو بفلوس ولوحدّت عليه غاليه والله لا شريها وانا ودي بثوب أو قميص عقبها ملبوس احطه فوق صدري كود عبراتي يداويها» وتجيبه ابنته وابنتها نوف تفيض بمشاعرها نحو والدتها الراحلة اسكنها الله فسيح جناته: «قصيدك هيّج اشجاني وبيح خافق محبوس رثيت اللي عسى الفردوس مسكنها وماويها انا مثلك فقدت امي وابا اعشق عقبها الهاجوس اقلّب صفحة الماضي ليال غاب غاليها عجبني بيتك اللي فيه تطلب ثوبها الملبوس ذبحني ذبح وعيوني مشى بالدمع واديها أنا يا بوي أبي شوفك لانك بك أثر محسوس والى شفتك مع اخواتي واخياتي الاقيها أنا مشتاقتن لامي ذكرت ايام كنا جلوس ذكرنا كيف جمعتنا سوالفنا تحلِّيها»