الله اكبر غافر الزلاَّت، داعي الحجيج إلى ثرى عرفات.. الله أكبر ملء ما بين السماء والأرض.. عدد الرمل والذرات، الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلا. اليوم هو التاسع من ذي الحجة، يومٌ يصعد فيه ضيوف الرحمن إلى ذروة سنام المناسك؛ ليكتبوا بأحرفٍ من نور دليلاً على انجاز حجهم وغاية هدفهم فالحج -دون شك- عرفة، اليوم يصعدون وينثرون مع كل خطوةٍ همومهم، ويُفرِّغون مع كُلِّ دعوةٍ رجاءهم، ويتخلَّصون في كُلِّ لحظة من ذنوبهم، فهنيئاً لهم، يخرجون بأمر الله من يومهم هذا كيوم ولدتهم أُمهاتهم، لقد تخلَّصوا اليوم من الذنوب والآثام والأدران، من كُلِّ ما أثقل كواهلهم، يحظون برحمات لا تنتهي من الرحمن الرحيم. مشهد عظيم ..رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين وعبر عشرات ومئات وآلاف بل وملايين الكيلو مترات من هذا المشهد العظيم وعبر عدد قد لا يستوعبه العقل من الكيابل والموجات السلكيَّة واللاسلكيَّة؛ يتابع الملايين من البشر هذا المشهد العظيم على ثرى هذه البقعة المُباركة، يرون بأعينهم ملايين من الراجين رحمة خالقهم ومولاهم، مِمَّن لم ترتحل سفينتهم ولم ترس على هذا الجوديّ إلاَّ رغبةً في الحصول على رضوان الله ومغفرته، إنَّهم ملايين تعلَّقت قلوبهم وأعينهم بخطوات الحجيج الصاعدين إلى حيث خطت قبلهم ملايين الأقدام تُلبيّ النداء مُسرعةً يدفعها الأمل والرجاء نحو غفران الذنوب ومحو الزلاَّت، نحو مكان ما التجأ فيه مهمومٌ مُثقل بذنوبه يرجو ربَّه إلاَّ تداركته رحمة الرحمن الرحيم، حينها يشعر أنَّ دموعه قد غسلت ذنوبه وخرج مُتخفِّفاً، معه من الرحمن عهداً يُشعره أنَّه تحت ظلِّ رحمة ربِّه مرحوماً طيباً مغفوراً له بإذن الله. النقل الفضائي لدعوات الحجاج زاد من روحانية المشاهدين هذه القلوب، وهذه الأبصار، وهذه الخفقات، من خلف الشاشات لا يقلُّ رجائها عن رجاء من صعد في هذا اليوم أعلى جبل الرحمة، ولا يقلُّ اشتياقها عن اشتياق من عانقت أقدامه الثرى الشريف هناك، لكنَّها لم تحظ بما حظي به هؤلاء، فلم تلامس أقدامهم هذا الصعيد الطيِّب المُبارك، ولم يتسلَّل هواء هذه البقعة إلى جوفهم ليغسل أرواحاً ويشفي صدوراً تأثَّرت بالذنوب وأدرانها. واقع ملموس في هذا اليوم تتابع أعين المشاهدين وقلوبهم الحجيج على صعيد عرفة، تُردِّد معهم التلبية، تبلع ريقاً جفَّفه عطش صيام هذا اليوم العظيم، لكنَّها تتمسَّك بترديد التلبية، لتتابع مابدأته من تكبير وتهليل ودعاء منذ مطلع هذه العشر المُباركة، هذا اليوم يحمل بين طيَّاته كثيراً من الأُمنيات والرجاءات، يوم تتوارى فيه الدنيا بكل انشغالاتها وهمومها وتفاصيلها التي لا تنتهي وراء المشهد العظيم، مشهد الصاعدين ومن خلفهم الطامحون والراغبون والمُتلهفة قلوبهم شوقاً للوقوف بهذا المكان، فلرُبَّما كان ذلك بعد عام أو أكثر من عام، المهم ألاَّ ينقضي العمر دون إطلالةٍ على هذا المكان، وألاَّ تُطوى صفحات الحياة دون أن تحمل إحداها صورةً تترجم هذا الحلم إلى واقعٍ ملموس. بين الخوف والرجاء تلمع العيون المُترقِّبة تراقب الموقف بلهفة، تتزاحم العبرات بين حنايا الصدور، قلوب تخفق وعيون تنساب منها دموعٌ حرَّى، وشفاه تتمتم بكلمة واحدة ترددها الألسن ليتردد صداها مُعبِّراً بصدق عن معناها الذي يُناجي الخالق المُدبِّر أن يارب اغفر لي، أن يارب تقبَّل منهم، واكتب لنا عفواً بقدر ماعفوت عنهم. حجاج على قمة جبل الرحمة يرجون الله خوفاً وطمعاً ملاذ آمن مكة "البلد الأمين" بلد الحبيب المصطفى.. "بكَّة" التي ماهفت القلوب منذ بدء الخليقة إلاَّ لها، منذ أن رفع إبراهيم الخليل وابنه اسماعيل -عليهما السلام- قواعد البيت وحتى يومنا هذا وإلى أن تقوم الساعة، هي الملاذ الآمن لنا كُلَّما ثقلت علينا الحياة واثقلتنا همومنا، كُلَّما جفت ينابيع الأمل أو تعاظم علينا الشقاء، كُلَّما زاد بنا الألم أو عصفت بنا الهموم والغموم، كُلَّما رجونا وكُلَّما تمنينا وكُلَّما دعونا وكُلَّما احتجنا وكُلَّما اضطررنا، لاتهفو أنفسنا دوماً إلاَّ لمعانقة أركان بيت الله الحرام، ذلك البيت القابع في "مكَّة" فاتحاً أحضانه، لا يردّ عاصياً ولا يُدير ظهره لمُذنب ولا يعبس في وجه عاصٍ، بابه يطرقه كل مُثقل وساحته يطوف بها كُلَّ حزين، والمسعى إلى جواره يؤمُّه كل مرتهنٍ بذنوبه، علَّه يجد الدواء في قطرات ماء زمزم تُعينه على غسل ماعلق به من أدران. ثُمَّ إذا جاء يوم عرفه وصعد الناس أفواجاً إلى جبل الرحمة وتوالت الجوائز وتحقَّقت الوعود الربَّانية ذهبت الهموم وتوارت الذنوب وكأنَّ شيئاً لم يكن، أعظم بها من جائزة ينالها العبد من ربِّه غفَّار الذنوب، ليعود بعدها عازماً هذه المرَّة على أن يواصل السير في طريقٍ خالٍ ممَّا يجعله مُنشغلاً لاهياً عن ذكر الله وعن الصلاة وعن الأوبة والعودة بصدق إلى خالقه ومولاه. «لبيك» تملأ فضاء عرفات..اذهبوا مغفوراً لكم خلف الشاشات تتابع الوجوه تترى أمام أعيننا خلف الشاشات، فنقرأ في كُلِّ وجه قِصَّة، لنجد البسمة تعلو هذه الوجوه فرحاً وأملاً ورجاءً وثقَّة بالله وحُسن ظنٍ به، نراقبهم لساعاتٍ وهم وقوف أو جلوس على الصعيد الطاهر، فهاهو أحدهم يُتمتم بكلمات رافعاً يديه ونظره إلى السماء مُناجياً ربَّه في لحظة اختلطت فيها الدموع بالكلمات، وآخر يصدح بتلبيةٍ يتأثَّر بها الشجر والحجر وبقيَّة المخلوقات، وثالث اكتفى بالصمت تعبيراً عمَّا يجول بخاطره ثقةً بربه الذي يسمع السِّر وأخفى، وكأنَّه بذلك يعبِّر بطريقته الخاصَّة عن كُلِّ ما أراد أن يبوح به، يشكو همَّه وحزنه لمن خلقه يتحدَّث بصمتٍ ليقول يارب ها أنا ذا بكُلِّ ضعفي وبما أثقل كاهلي من ذنوب أقف مُتذلِّلاً بين يديك، جئتك وقد تركت خلفي المال والولد والأهل ومتاع الدنيا ولذتها، جئتك مُلبياً نداءك أبوء لك بذنبي فاغفر لي فإنَّه لايغفر الذنوب إلاَّ أنت. يوم الرحمة والغفران لقد جاءت هذه الجُموع من كُلِّ حَدَبٍ وصوب ترجو رحمة ربِّها وغفرانه، فهنيئاً لهم أن بلغوا يوم الرحمة والغفران، يوم الجوائز، يوم العتق من النيران، هنيئاً لمن كان اسمه مُدوَّناً في سجل المغفور لهم، هنيئاً لمن سيشهد له صعيد عرفه أنَّه حمله فوق ظهره وأنَّه سمعه يُلبِّي ويدعو، وأنَّه تساقط عليه شيئاً من دموعه، وأنَّه لمس الفرحة في عينيه حين أذَّن المؤذِّن معلناً عن غروب شمس هذا اليوم، حين أيقن بتحقُّق وعد الله، وأنَّه وقف بعرفه، وأنَّه سينفر بأمر الله منها وقد غفر الله له ما تقدَّم من ذنبه. أمَّا أُولئك الشاخصة أبصارهم خلف الشاشات، المُتلهفة قلوبهم، المعقودة آمالهم ثقةً بمولد يومٍ قريب ينضمون فيه لأفواج الحجيج ويصبحون فيه من زمرة الصاعدين وأفواج النافرين من عرفة، هؤلاء قد سمع الله السميع دعاءهم، وهو وحده من سيكتب لهم الأجر على ذلك بإذنه.