لم يستطع أحد من أساتذة مدرسة لندن للاقتصاد في نوفمبر 2008، هذه المدرسة التي تعتبر من أهم وأشهر معاقل الاقتصاد الأكاديمي، أن يرد على تساؤلات ملكة بريطانيا إليزابيث عند زيارتها للمدرسة عن أسباب عدم تمكن أين منهم التنبؤ بالأزمة المالية التي عصفت بالعالم في ذلك العام. ويوم الثلاثاء قبل الماضي أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن الأزمة الاقتصادية العالمية ذات ملامح هيكلية. إذاً فنحن والعالم نعيش أزمة هيكلية وليست مالية. وهذا يعني أن جذور الأزمة ليست الرهن العقاري ولا الديون السيادية التي يئن تحت وطأتها العديد من البلدان مثل اليونان وقبرص وغيرها. فهذه الأموال التي أنفقت على معالجة الأزمة منذ اندلاعها كانت كفيلة بالقضاء على أي أزمة مالية. ولهذا فإن على العالم أن يواجه الحقيقة بدلاً من اللجوء إلى وصفات العلاج التجميلية. وعلى ما يبدو لي فإن أحد أسباب الأزمة الهيكلية هو تحول الاقتصاد العالمي منذ ثمانينيات القرن المنصرم نحو اقتصاد المضاربة على حساب قطاعات الاقتصاد الحقيقية. فنحن لو نظرنا إلى الصين، التي ما زال حجر الزاوية في اقتصادها هو الإنتاج وليس المضاربة، فسوف نجد أنها قد تكون من البلدان النادرة التي كان تأثير أزمة عام 2008 عليها أقل ما يمكن. بالفعل فإن التحول نحو اقتصاد المضاربة في الولاياتالمتحدة وأوروبا كانت له انعكاسات خطيرة وثمن باهض. فنحن إذا نظرنا إلى الأجور في الولاياتالمتحدة في سبعينيات القرن الماضي فسوف نجد أن نسبتها تصل إلى 69.9% من الدخل القومي. أما في أوروبا فإن هذا المؤشر وصل إلى 72.9%. وقد تصدرت فرنسا وبريطانيا القارة الأوروبية في هذا المجال 74.3%. ولكن بعد أن خفت القيود على المضاربة صرنا نرى تراجع معدلات نمو القطاعات الاقتصادية الحقيقية الأمر الذي انعكس بالسالب على الأجور. ففي عام 2012 كانت نسبة الأجور في فرنسا 68.2% من الناتج المحلي الإجمالي وفي بريطانيا 72.7%. وهذا بدوره أثر على القدرة الشرائية. طبعاً الدافع والمحرك لكل هذا التغيرات الهيكلية في اقتصاد البلدان الصناعية هو الطمع. فالجشع قد دفع بعض المجاميع الاقتصادية والمالية للعمل نحو زيادة حصتها في كعكة الثروة الوطنية أي الناتج المحلي الإجمالي. ولهذا عملت هذه المجاميع كل ما في وسعها من أجل تغيير القوانين لمصلحتها. ونتيجة السطوة والجاه التي تحظى به نجحت في تقليص دور الرقابة الحكومية على الاقتصاد State Regulators. وهكذا تضخم اقتصاد المضاربة، أي اقتصاد الفقاعات، وزادت أرباح العاملين فيه بينما تقلصت المداخيل التي يحصل عليها المشاركون في قطاعات الاقتصاد الحقيقي سواء كانوا أرباب عمل أو عمالا. هذا هو واقع الاقتصاد العالمي اليوم. ولهذا فإنه ما لم تتحلَ البلدان الصناعية بالجرأة وتقدم على إحداث تغيير حقيقي وليس تجميليا في هيكل اقتصاداتها لمصلحة قطاعات الاقتصاد الحقيقية فإن الخروج من الأزمة الاقتصادية والمالية التي نعاني منها منذ عام 2008 وحتى الآن سوف يكون أمراً في غاية الصعوبة هذا إذا لم يكن مستحيلاً.