{من المؤمنين رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً} (الأحزاب: 23). اختارت إرادة الله العلي القدير خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود لينتقل من دار الدنيا إلى دار الآخرة، في يوم تاريخي طويت فيه صفحة من صفحات المجد التي سجلها بحروف من نور رحمه الله رحمة واسعة وجعل جنان الفردوس مثواه، رفيقاً للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً. وقد صدق الملك فهد - رحمه الله - العهد، وأنجز الوعد، وأوفى بحقوق الدين عليه وعلى وطنه وعلى أمته. وإذا أردنا أن نتتبع جهوده - رحمه الله - من منطلق المحبة والولاء والوفاء في خدمة دينه ووطنه وشعبه وأمته فإن علينا أن نرجع بذاكرتنا إلى قبيل توليه سدة الحكم وتحديداً من العام الهجري 1373ه عندما تقلد - رحمه الله - وزارة المعارف لدى تأسيسها فكان أول وزير عاصرها بدءاً من نشأتها وتطورها خطوة خطوة، وسار مستعيناً بالله عز وجل، مستشعراً بقيمة العلم وأهميته البالغة في بناء الأوطان، وتربية الأجيال، وإعداد كوادر المستقبل، وتطوير المجتمعات من منطلق أملاه عليه دينه، وقاده إليه وفاؤه لشعبه ووطنه. وكانت عزيمته الصادقة - رحمه الله - دافعاً أساساً له لنشر العلم في ربوع المملكة المترامية الأطراف، واضعاً نصب عينيه تشييد المباني الدراسية المتكاملة ووضع المنهج الدراسية الذي يتوافق مع بيئة المملكة في ظل الشريعة الغراء، وفي ضوء مواكبة التطورات المتسارعة في ميدان العلم، وبذل الجهود المكثفة نحو إعداد المعلمين الأكفاء، وتحديث طرق التدريس، وتهيئة الوسائل التعليمية المناسبة للطلاب والمعلمين. وإن المتأمل لبنية التعليم العالي في المملكة - على سبيل المثال - في صورته الحاضرة مقارنة باللبنات الأولى التي عليها يأخذه العجب للقفزات السريعة المتعاقبة التي أصبح عليها بما يتواكب مع التقدم العلمي والتقني المعاصر. فقد تحققت الطموحات التي كان يأملها في ميدان التعليم العالي خاصة، وذلك بفضل من الله وتوفيقه، ثم بجهوده واهتمامه، إذ انتشر هذا النوع من التعليم وبلغ مستوى متقدماً، حيث أصبح في المملكة قرابة ثمانين مؤسسة تعليمية عالية، اشتملت على العديد من الجامعات والكليات والمعاهد ذات التخصصات المتنوعة، منها إحدى عشر جامعة، تضم العديد من التخصصات العلمية، فضلاً عن مؤسسات التعليم العالي العسكري التي تقوم بدور فاعل وأساس في نشر التعليم العسكري المتطور وفي تخريج الكوادر القادرة بحول الله وقوته على حماية الحرمين الشريفين والذود عن حدود الوطن المترامية الأطراف وتحقيق الأمن بكل أنواعه لأبنائه والمقيمين على ترابه. ويجدر بنا كذلك أن نبرز جهوده - رحمه الله - المتميزة في خدمة الإسلام ومؤازرة المسلمين، ومناصرة قضاياهم، ورعايتهم، والاهتمام بهم، وهذا من الوفاء لقائد عظيم يستحق ذلك بكل الاعتزاز والتقدير، فلقد تنوعت هذه الجهود في مجالات شتى تتبين فيما يلي: 1 - اهتمامه بعقيدة السلف الصالح - عقيدة أهل السنة والجماعة - ونشرها بين المسلمين في العالم، إلى جانب تحكيم الشريعة الإسلامية وتأكيده على استقلال القضاء في المملكة العربية السعودية، مما جعلها أنموذجاً في هذا المجال. 2 - جهوده - رحمه الله - في خدمة كتاب الله الكريم والمصدر الأساس للإسلام والمسلمين إذ أنشأ - أثابه الله - مجمعاً لطباعة المصحف الشريف وترجمة معانيه، حيث أدى ذلك إلى نشر المصحف الشريف ومعانيه بعدة لغات في العالم، وقد وُسم هذا المجمع باسمه وفاءً وعرفاناً وتخليداً لهذه الجهود التي كانت عوناً على نشر القرآن الكريم ومعانيه المترجمة بلغات الشعوب الإسلامية واللغات الأخرى. 3 - أما السنة والسيرة النبوية التي تبوأت المكانة الثانية من مصادر التشريع الإسلامي، فقد حظيت من خادم الحرمين الشريفين - رحمه الله - بعناية بالغة، من خلال إنشاء مركز خدمة السنة والسيرة النبوية في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، إلى جانب الكليات والأقسام العلمية التي تهتم بعلوم السنة والسيرة النبوية، التي تفاعل دورها في خدمة السنة والذب عنها. 4 - وأما لغة القرآن الكريم - اللغة العربية - التي قال عنها الحق تبارك وتعالى في الذكر الحكيم {إنا أنزلناه قُرآناً عربياً لعلكم تعقلون} فحظيت هي الأخرى بهذا الاهتمام في ميدان التعليم، ولم يقتصر ذلك على إنشاء كليات متخصصة بهذا الاهتمام في ميدان التعليم، ولم يقتصر ذلك على إنشاء كليات متخصصة فحسب، بل أُنشئت لهذا الغرض معاهد متخصصة في تعليم هذه اللغة للناطقين بغيرها، الذين استقدموا من كافة أنحاء العالم من الطلاب المسلمين ليدرسوها في منبعها وليكونوا بعد ذلك حراساً لها، داعين إلى الله عز وجل بها في أوساط المجتمعات الإسلامية وغيرها. 5 - وأما الحرمان الشريفان «مهبط الوحي ومنطلق الدعوة الإسلامية ومهوى أفئدة المسلمين» فقد احتلا بؤرة اهتمام الفهد - رحمه الله - فكانت التوسعة العملاقة غير المسبوقة في عهده الميمون، يضاف إلى هذا ما حظيت به المشاعر المقدسة من اهتمام بالغ وتوسعة مستمرة خدمة لضيوف الرحمن الذين يفدون من كل فج عميق، والذي هيأ لهم مختلف الخدمات الأمنية، والصحية، والاجتماعية، إضافة إلى المياه المبردة التي تُوزع عليهم من نفقته الخاصة أثابه الله يوم يقوم الأشهاد. 6 - وامتدت جهوده - رحمه الله - إلى الإحساس بالمسلمين أينما كانوا وبمشكلاتهم وبما يواجهونه من تحديات من منطلق قول الله سبحانه وتعالى {إنما المؤمنون إخوةٌ} وقوله عز وجل: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} فبذل جهوده الصادقة في سبيل توحيد الأمة الإسلامية ومن خلال إنفاذ أمر الله تبارك وتعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} وقوله سبحانه: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} وقول رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» فاهتم بلم شمل المسلمين والدفاع عن قضاياهم، ومد يد العون للشعوب الإسلامية ولا سيما التي تعرضت للقهر والعدوان من أعدائها خاصة فلسطين قضية المسلمين الأولى بمسجدها الأقصى المبارك، إضافة إلى الشعوب التي تعرضت للإبادة، وانتهاك الحقوق، واحتلال الأراضي من قبل أعداء الإنسانية الذين يتبعون سياسة الأرض المحروقة، فكان موقفه المشرف عوناً لهذه الشعوب على استرداد سيادتها مثل البوسنة والهرسك، وهذا على سبيل المثال وليس على سبيل الحصر. وبعد فهذا غيضٌ من فيض مما قدمه خادم الحرمين الشريفين الملك فهد - رحمه الله - إعلاءً لكلمة الله تعالى، وخدمة لوطنه، ولأمته، فقد أثمر ما زرع وأصبحت الأحلام التي كان ينظر إليها بكل أمل وتطلع وحماس حقائق منظورة، انعكست ايجاباً على الإنسان السعودي، وعلى المملكة العربية السعودية موئل العرب وعز المسلمين، وحامية حمى الإسلام المكين وعلى أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس. فجزى الله خادم الحرمين الشريفين خير ما يجزي به عباده الصالحين، وأثابه نعم الثواب وأجزل له الجزاء الحسن نظير ما قدمه للإسلام والمسلمين، وأسكنه فسيح جناته رفيقاً للنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. كما أسأل الله سبحانه وتعالى أن يفوق خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز آل سعود لما يحبه ويرضاه، وأن يعينهما على حمل الأمانة العظيمة وأن يحفظ عرين الإسلام المملكة العربية السعودية، والأسرة المالكة الكريمة وشعب المملكة الوفي، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير. {ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}. وآخر دعوانا أن الحمد لله وسلامٌ على عباده الذين اصطفى. ٭ الأمين المساعد لرابطة العالم الإسلامي لشؤون المساجد