كانت أيامٌ جميلة ومثمرة، تلك التي أمضيتها موظفاً رسمياً وليس متعاوناً في الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، عاصرتُ خلالها - رغم فترتها الزمنية القصيرة نسبياً - ثلاثة من رؤسائها الأفاضل، وهم على الترتيب الآتي: معالي الشيخ إبراهيم بن عبدالله الغيث، ومعالي الشيخ عبدالعزيز بن حِمين الحِّمين، ومعالي الرئيس العام الحالي الشيخ الدكتور عبداللطيف بن عبدالعزيز آل الشيخ . اعترف بأنَّ الصورة النمطية السلبية عن الهيئة، كانت عالقة إلى حدٍ ما في ذهني وفكري، قبل العمل في هذا الجهاز المجتمعي المهم، واعترف كذلك بأنَّ الهواجس كانت تنتابني بشأن قدرتي على الكتابة الصحفية، وفق رؤيتي الفكرية الخاصَّة، دون قيودٍ أو إملاءات، منبعها بيئة العمل الجديدة. ولكن كل ذلك توارى نسبياً، أمام رغبة جامحة، بدت حاضرة بقوة، في اقتحام مطبخ الهيئة، والاطلاع على الفكر والمنهج والأدوات والأساليب، التي يُدار بها هذا الجهاز. وكما تقول العرب (ليس كمن رأى كمن سمع) فقد تبين لي أنَّ هذه الهواجس لم تكن في محلها. فقد رأيت وشاهدتُ وتفاعلتُ مع بيئة عمل أكثر انضباطية، وأكثر تحفيزاً، تتبنى فكر التطوير والتحديث، والشراكة المجتمعية، وميكنة العمل، وتوظيف الموارد، وتوطين التقنية الحديثة، والدراسات المساندة، بما يخدم في نهاية الأمر أهداف الهيئة وتطلعاتها. والأهم من ذلك كله، مساحة إبداء الرأي المتاحة، للمنضوين تحت عباءة الهيئة للتعبير عن رؤاهم وأفكارهم حيال قضايا المجتمع وإن لم تتماهى مع التَّوجه العام لجهاز الهيئة. هذه الأجواء أتاحت لي الكتابة عن قضايا عديدة، عبَّرتُ من خلالها عن رؤيتي الخاصة في مدلولها، ومن ذلك قرار خادم الحرمين الشريفين حفظه الله بإشراك المرأة السعودية في الاستحقاق الانتخابي البلدي، في نسخته الثالثة بركنيه: التَّرشح والتصويت، وكذلك في عضوية مجلس الشورى، في نسخته السادسة، وقد عبًّرتُ عن ذلك في مقال (السعوديات في يوم عُرْسِهِنَّ) وفي مقال (وأشرقتْ شمس السعوديات!). وهذا يقيناً مني بأننا في مجتمعٍ مسلم، وكل ما يتعلق بشؤون المرأة السعودية المناضلة، يتم وفق قواعد شرعية وإجرائية معتبرة. وكل هذه المواقف الفكرية والمبدئية، التي قد تتباين مع مواقف أخرى داخل الهيئة، لم تؤثر على الإطلاق على علاقات الاحترام والزمالة، وهذا أمرٌ يُحسب لهم ومحل تقدير. في أحد لقاءاتي مع معالي الرئيس العام الشيخ الدكتور عبداللطيف بن عبدالعزيز آل الشيخ، فاجأني بقوله (اكتب ما تشاء وفق رؤيتك، وانتقد، ولا تستثنيني من ذلك ) وبقدر ما أسعدتني هذه العبارات المُشجِّعة، فقد كانت سعادتي أكبر بوجود شخصية وسطية معتدلة على رأس هذا الجهاز، ممَّا أكسبه مزيداً من التقدير والاحترام المجتمعي والإعلامي. أثناء فترة عملي، كان الجهد الأكبر موجهاً أساساً نحو العمل الميداني، وقد أُقيمت في هذا السياق مئات الدوارات والبرامج والندوات لتطوير مهارات رجال الهيئة الشرعية والقانونية والفنية، والعناية باحتياجاتهم التدريبية والمعرفية، بما يجعلهم مؤهلين للتعامل مع الجمهور، بصيغٍ وصورٍ أكثر انضباطية وشفافية، ودون المساس بحقوقهم، أو كرامتهم، المكفولة لهم شرعاً ودستوراً. إضافة إلى قيام القيادة العليا للهيئة بإنشاء غرفة عمليات على غرار الأجهزة الأمنية لتسهيل الاتصال، ومتابعة الأداء، والمراقبة على مدار الساعة للتأكد من عدم وجود تجاوزٍ أو نقصٍ ابتداءً من كتابة المحضر وانتهاءً بالإجراء الذي يتم حيال القضية. ومع كل ذلك، فالأخطاء، أو الاجتهادات الخاطئة في العمل واردة، وتبذل الهيئة جهوداً كبيرة لمعالجتها. وبالرغم من ندرتها، فإنَّ الإعلام في الغالب يتعامل معها بشيءٍ من التضخيم أو المبالغة، وقد يكيل التُّهم والتقصير جُزافاً، دون تروي أو تمحيص. وهذا بلا شكٍ ضريبة العمل في هذا الجهاز المهم المثير للجدل، وضريبة الاحتكاك المباشر بمختلف الشرائح المجتمعية. على أيَّة حال ينُتظر أن تخرُج إلى النور قريباً لائحة تنفيذية للتنظيم الجديد لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الصادر في السادس عشر من شهر ربيع الأول لهذا العام 1434ه، والذي حلَّ محل النظام السابق الصادر عام 1400ه. ويُتوقع أن يسهم ذلك في تحسين وتطوير مستويات الأداء، والإحاطة بكل الإجراءات الإدارية والميدانية اللازمة لمباشرة اختصاصات الهيئة، ومهامها، وتفعيل رسالتها وأدوارها المجتمعية. كنتُ آمل وأرغب، قبل نهاية خدمتي في هذا الجهاز القريب إلى نفسي، أن يتم تحفيز منسوبيه، حُرَّاس الفضيلة، بالعديد من المزايا المادية والمعنوية، الضرورية والمستحقة لهم، وفي مقدمتها كادر خاصٌ يؤمِّن لهم مزايا مادية تفي باحتياجاتهم المعيشية، ويتناسب بالكلية مع جهودهم المضنية التي تتجاوز في الغالب ساعات العمل الرسمية، ومع الأسف الشديد بدون مقابل مادي. كنتُ آمل وأرغب في تجديد طلب إدراج خطة تشغيلية للهيئة، ضمن الخطة الخمسية العامة للدولة، أسوة بالجهات والهيئات الحكومية الأخرى. وكانت وزارة الاقتصاد والتخطيط – وهي الجهة المخولة بإعداد الخطط التشغيلية والخطة العامة للدولة – قد رفضت مراتٍ عديدة، إدراج خطة تشغيلية للهيئة، بحجة أنَّها تُصَّنف ضمن القطاعات الإدارية!! وهذا تبرير في تقديري غير مفهوم!! ولعلَّ معالي الرئيس العام وفقه الله يُعيد طرح هذه المسألة المهمة مع معالي وزير الاقتصاد والتخطيط، لحاجة الهيئة الفعلية لتنظيم احتياجاتها من البرامج الإنشائية والتطويرية والقوى البشرية المؤهلة، اللازمة لمقرها الرئيس، ول(13) فرعاً في مختلف مناطق المملكة الإدارية، ول(465) وحدة إدارية من هيئات المدن والمحافظات ومراكز الهيئة. علماً بأنَّ مجلس الشورى قد أوصى في قراره رقم( 31/35 ) عام 1419ه بضرورة أن تشمل خطط التنمية الخمسية الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأكدَّ على هذه التوصية في قراراته( 51/49 ) عام 1421ه، و ( 3/3 ) عام 1422ه، و( 65/48 ) عام 1426ه. ولو كانت وزارة الاقتصاد والتخطيط قد استجابت لطلب الهيئة المدعوم من مجلس الشورى بإدراج خطة تشغيلية لها، لكفى الهيئة مؤونة الدخول في متاهة خطتها الإستراتيجية طويلة المدى ( حِسْبة 1430- 1450ه ) والتي كلَّف إعدادها أكثر من (10) مليون ريال. مع الأسف الشديد بُنيت هذه الخطة على افتراضات وتوقعات غير واقعية، ومُفرطة في التفاؤل، دون النظر إلى إمكانيات الرئاسة ومواردها المتاحة. فضلاً أنَّ إعداد وبناء هذه الخطة لم يسبقه تهيئة فنية وعلمية للكوادر البشرية اللازمة لتقوم بمهام تنفيذها، وهذا بطبيعة الحال خللٌ منهجي فادح. لذا فقد كان من الطبيعي أن تحصُل صعوبات جمَّة، وإشكالات فنية ومادية، وفشل كلي أو نسبي، في تطبيق الكثير من برامجها ومبادراتها المستهدفة. وحسناً فعلَ معالي الرئيس العام الشيخ الدكتور عبداللطيف بن عبدالعزيز آل الشيخ بوقف تنفيذ برامج ومبادرات الخطة الخمسية الأولى المنبثقة عن الخطة الإستراتيجية، للحدِ من استنزاف الجهود والموارد معاً. كلمة أخيرة: هيئة الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، جزءٌ مهم في منظومة الدولة، تُمارس مهاما محددة، للمحافظة على قِيم المجتمع وحراسة فضائله، ولا يمكن تأدية هذه المهام بصورة صحيحة، وبمهنية وشفافية إلا إذا تمت وفق النظام، وفي مراحل سابقة أخطأت الهيئة بتجنيد المتعاونين كرأس حربة للمراقبة والمتابعة والتجسس، وفقدت من جرَّاء ذلك بعضاً من رصيدها المجتمعي الإيجابي. ولكنها اليوم بعد تصحيح مسارها، تنطلق مرة أخرى، وهي تعي تماماً أهمية احترام كل الإجراءات النظامية لمباشرة مهامها، وهذا ما يحفظ للهيئة، بلْه ويزيد من مكانتها في المجتمع.