العلم والتعلم والدراسة النظامية لم تكن منتشرة إلا بعد الاستقرار والوحدة في منتصف القرن الماضي الهجري، إلا أنه توجد بعض المدارس والتعليم في بعض البلدان وخاصة مكة والمدينة حيث تتم في الحرمين الشريفين وكذا بعض المناطق على شكل مشاريع أهلية تطوعية خيرية. العلم لا شك وسيلتنا لكل بناء حضاري، وتخطيط سليم وارتقاء، هو طريقنا نحو النور ونفض غبار الجهل، وهو أهم من أي ثروة لأنه يوصلنا إلى الحفاظ على أي ثروة أخرى مادية وزيادتها، وأول الثراء والغنى معرفة الدين ونشره والتنمية بعمومها. يا استاذ علمني اكتب الخط واقراه من شان أراسل صاحبي زين الاوصاف جاءت الدراسة إلى مجتمعنا بنظام جديد لم نتعوده من قبل، ومن النعم أن بدأت بحلقات ولو قليلة العدد في الكتاتيب، فكان الناس يفرغون من كل عائلة واحدا من أولادهم ليتعلم ولكنهم لا يستطيعون إرسال الجميع بسبب حاجتهم لهم في شؤونهم الزراعية ورعي أغنامهم والإبل، أو التجارة بيعا وشراء. ومع هذا يعتبر العدد كافياً للحفاظ على مدد العلم والمتعلمين في كل قرية أو تجمع سكاني، فحيث تسكن مئة أسرة في القرية على سبيل الافتراض، يكون هناك خمسون طالب علم تقريبا، باعتبار أن بعض الأسر لا يوجد لديها من ترسله أو لا تريد إرسال أولادها إلى الكتاتيب (المطوع) علما أن التعلم يكون إما مجانيا أو شبه مجاني فليست هناك رسوم مفروضة على الدارس وإنما هي تبرعات عينية في الغالب أو نقدية قليلة من الأهالي، وهذه العينيات تتمثل في التمر والقمح. وعادة يقوم مطوع المسجد بتنظيم حلقات الدرس في مكان مخصص يوفره له جماعة القرية، وربما علمهم في داره أو في أحد المساجد. وكانت الدراسة في الكتاتيب في الغالب تقتصر على تعلم القرآن الكريم فقط، حفظا وكتابة، وبعض الكتاتيب تتم فيها زيادة على ذلك تعلم اللغة العربية وشيء من الأدب والتاريخ وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأيضا تجويد الخط وحسن القراءة. ومعلوم ان التعليم نظام وارتباط وأن قليلا من طلبة العلم في بدايتهم يقبلون على الدرس بحماسة وحب للمعلم أو المطوع، فالغالبية ينفرون من نظام التعلم والارتباط به لأسباب كثيرة أهمها عدم إدراكهم لأهمية العلم وضرورته، وثانيها أنهم في الغالب مكرهون على الالتحاق بحلقات الدرس، ولا يريدون الارتباط بنظام وهم يجدون الحرية في الانطلاق في الحقول والبساتين أو الأعمال التي ألفوها حتى ولو كانت متعبة لكنها جسدية، وقد يكون بعضهم ليس له المقدرة على الحفظ ومهارة الكتابة، وتعب تحصيل العلم يحتاج إلى صبر وثبات وتفرغ ذهني ومثابرة ومتابعة وتأسيس لمثل هذا سابق، وتهيئة من المجتمع، ولكن الأمية السابقة لم تمهد لمثل ذلك، وجاء التعليم النظامي مفاجئا، فكان الآباء والأمهات غير متعلمين وأساليب التربية وقتها صعبة جدا، وكل ذلك مع عدة ظروف جعلت التعليم أمرا متعباً. قالوا على ألسنة الطلاب المتعلمين في الكتاتيب سابقا بعض العبارات التي منها: (يوم الخميس، نبي نذبح بليس، ونعطي مطوعنا ميقعة حميس) ويعنون أنهم سوف يعطون معلمهم هدية ميقعة مليئة باللحم الحميس من تلك الذبحة التي هي إبليس، وهذا بالطبع لا يبشر بمحبة. وقالوا: (يوم الجمعة، نذبح عنزنا صمعة، ولا نعطي مطوعنا ولا ملا جمعه) وهم يعنون أنهم لن يعطوا مطوعهم من هذه الذبيحة الطيبة ولا ملء يده. وهذه كلها عبارات تعبر عن مدى عدم تأقلمهم مع نظام الارتباط للدرس والتفرغ له، وبالتالي فهم ينفرون من حبس النفس على العلم وقد تعودوا حرية عدم التقيد بشيء. ومع الوقت تغير الوضع وبرز علماء حملوا مشعل النور في كل الجزيرة، إنما هي البدايات الصعبة التي كان للمفاجأة تاثيرها. ولا ننس الإقبال الشديد على الدراسة والمذاكرة من قبل الطلاب بعد انتشار المدارس وأخذ المسألة بالجد، واهتمام المجتمع بذلك ومشاركتهم هموم أولادهم، حتى أن الشهادة الابتدائية في البدايات ذات شأن كبير، يعود بعض الطلاب بعد تخرجهم معلمين في المرحلة الابتدائية فور تخرجهم، وكانت أسماء الناجحين تذاع من إذاعة الرياض على مستوى المملكة في الثمانينيات الهجرية، وكان من إقبال الطلاب على العلم أنهم يرابطون في المساجد بعد العصر حتى أول الليل يوميا وقبل الاختبارات النهائية بشهر أو أكثر، فكانت المساجد في كل مكان مليئة بالطلاب، وحضورهم رغبة منهم مدفوعين على ذلك بدوافع ذاتية ورغبة منهم دون إجبار، بل كان محاكاة وتقليدا لبعضهم. وبعض الطلاب بل غالبيتهم يحضر للمسجد ومعه لمبة يضعها في أحد أفياش الكهرباء في المساجد التي فيها كهرباء خاصة المدن الكبيرة، ويذاكر دروسه على أنوارها، فإذا انتهى وقت مذاكرته أخذها معه لمنزله. وتتابعت التغيرات والمتغيرات فلم تقتصر الدراسة على المواد المعروفة كالقرآن الكريم وعلوم الدين والعربية بفروعها القواعد والأدب، بل زادت مواد كثيرة منها الرياضيات والعلوم والبلاغة والنقد... الخ. فكان لتلك المواد أيضا رهبتها ونفور بعض الطلاب من تعلمها وكل غريب وجديد يفترض فيه ما ليس فيه، وأول ذلك الصعوبة الناتجة من كونه جديدا لا أكثر. فعندما جاءت المواد الجديدة الجبر والهندسة، قالوا عن صعوبتها وفي سياق الصياغة الرياضية نفسها: (الجبر + الهندسة = الهروب من المدرسة) وهي عبارة واضحة تختصر على كثير من التربويين الوصول إلى سبب التسرب الدراسي أحيانا، فمن أسبابها غرابة بعض المواد وعدم قدرة الطالب على الاستيعاب أو قصور في طرق التدريس أو التكيف مع المادة، رغم حرص المجتمع كله على إلحاق أولادهم بالمدارس والتوصية عليهم وإعطاء كامل الحرية في عملية التعليم والتربية بقولهم (لكم اللحم ولنا العظم) وهي عبارة تدل على ثقة المجتمع في المدرسة، ولكنها ليست عبارة صحيحة تربويا، فبعض المعلمين في أي زمان ومكان لا يعطون الحرية الكاملة في التربية بل إن تعديل طرقهم واجبة على ولي أمر الطالب إذا ما تبين أنه يقسو على الطالب بغير حق أو يكون من طبعه الشدة في غير محلها. ومن العلوم أيضا الفيزياء والكيمياء والجغرافيا والبلاغة. وفي البلاغة لا يكتفى بتحسين اللفظ والبيان سليقة ولكن تعطى دروس من البيان والبديع من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز وطباق وسجع وجناس ومقابلة وتورية... الخ. وهذه الموضوعات تدرس وتضمن قواعد دون أن يتحدث بها الطالب على السليقة وليس من السهولة استيعابها والحالة تلك وبالتالي توصف بالصعوبة. أحد الطلاب كان يعرفها بالسليقة ويطبقها دون علم أنها أصلا بلاغة وبيان وأن ما يقوله في كلامه هو بالضبط ما رسمت الأهداف من أجله، وفي الاختبارات لم يستطع الإجابة على الأسئلة. كان اسم المعلم : بشير، والدرس بلاغة ولم يعرف الطالب أي شيء في الورقة فكتب القصيدة التالي: أ(بشير) قل لي ما العمل واليأس قد غلب الأملْ قيل امتحان بلاغة فحسبته حان الأجلْ وفزعت من صوت المراقب إن تنحنح أو سعلْ ويجول بين صفوفنا ويصول صولات البطلْ أبشير مهلاً يا أخي ما كل مسألة تحلْ فمن البلاغة نافع ومن البلاغة ما قتلْ قد كنت أبلد طالب وأنا وربي لم أزلْ فإذا أتتك إجابتي فيها السؤال بدون حلْ دعها وصحح غيرها والصفر ضعه على عجلْ ولا شك أنه قال من الشعر ما هو بليغ وفيه من البيان ما فيه، ولذا حصل على النجاح ولم يكن نصيبه صفرا كما توقع. أما الالتزام بالوقت والحضور المستمر إلى المدرسة وعدم الغياب فقد كان الجميع حريصين على ذلك إلا من التزام آخر أهم في نظرهم من الحضور، كالعمل ولو لبعض الوقت في المزرعة أو العناية بالأدباش من غنم وبقر وإبل. وقد تأخذ بعضهم الرغبة في الأنس فيتغيب عن الدراسة لهذا السبب. وهذا الشاعر: علي الحربي معبرا عن عذره عن غيابه عن المدرسة يقول في قصيدة للمدير يعتذر فيها عن الغياب، ويخيره بين قبول العذر والاستمرار في الدراسة أو رفض العذر وترك الدراسة: يا مدير المدرسه وقت الدراسه الحقيقه رحت عنه وراح عني الهدف ماهو بعلم ولاسياسه افتح اذنك والصحيح يجيك مني خذ كلام الطالب اللي شاب راسه مادرس في مدرسة هنّ بن هنِّي يامدير، الوقت فارسني فراسه والتجارب قبل درسك درسنّي ما درسناها على كرسي وماسه سامعين الدرس من راس المسنِّي وأنت من ساسك وعز البيت ساسه وفيك ياراع الوفا ماخاب ظني وكانها صارت مثل راع العساسه كل شيٍ راح مني ما غبني يوم غبنا عنك مقصدنا الوناسه مع رجالٍ كيفهم هيلٍ وبني ان قبلت العذر فصلنا لباسه وان رفضت العذر ماني بمتعني وكان راسك ماتنازل عن يباسه دوك كتبك كلها لا تمتحني وقد ختمها بتنازله عن الدراسة وتركها وتسليم الكتب للمعلم إن لم يقبل عذره عن غيابه الذي حصل بسبب حبه للوناسة. يقول شاعر آخر كان يرغب في إجازة ولم تتم الموافقة ولعله معلم رياضيات: حان وقت الحصص باروح انا للدوام ماحصل لي أجازة من رداة النصيب (الرياضيات) جابت هالتعب والسقام صار حالي خطر أبعرضه للطبيب أما أحد طلاب المدارس الليلية فقد جاء راغبا في معرفة القراءة والكتابة ولكن لماذا؟ حتما ليس طلبا للعمل كما يتبين من أول بيت حيث يقول: يا استاذ علمني اكتب الخط و اقراه من شان أراسل صاحبي زين الاوصاف قلّي: قل (أبجد) قلت قلبي توجّد على وسيع العين ابو حجيِّج رهاف قلي ت (هوّز) قلت ودّي أتجوّز على الذي له بين الأضلاع مصياف وهذا شاعر آخر لديه معاناة من كثرة شروده عن الدرس وتعلقه بما هو خارج الفصل فيقول: يا استاذ انا ابنشدك ليه زايد اللوم مسكين والمسكين راعي ظروفه تشرح و أنا اجاوبك : مفهوم مفهوم والدرس والله ماعرفنا حروفه وش حيلة اللي من عنا الوقت مهموم والحظ الأشهب ما يحقق شفوفه