زمانية وأحداث مكانية..واليوم «عيارات» هزل وسخرية شُغف العرب منذ عصر الجاهلية بحمل الألقاب و"الكُنى"، وظل العربي طيلة هذا العصر وصدر الإسلام والأموي ملتزماً بحمل اللقب الذي اشتهر به بين أحياء ومضارب العرب، وعرفه من خلاله القاصي والداني. كانت ظاهرة الألقاب قد انتشرت في ذلك الحين بسبب تشابه الأسماء وتكرارها في الأسرة الواحدة والحي الواحد، ناهيك عن أسبابها ومناسباتها المختلفة، كأن يحمل أحدهم اللقب لظروف أو قصة حدثت له، أو لأحداث مر بها، أو بسبب بيت شعر اشتهر به، ناهيك عن الهزل والسخرية و"العيارات" التي عرفت أنها فن عربي أصيل، لا سيما وأنها راجت وانتشرت في آدابهم ومجالسهم وأشعارهم، مثل قولهم "علقمة الفحل"، و"تأبط شراً" ذلك الشاعر الصعلوك الذي كان يهاجم القوافل ويقطع الطرق، ويطعم المحتاجين من أموال الميسورين، في صورة مماثلة لما كانت عليه أسطورة "روبن هود" في الروايات العالمية. ساحة الصفاة بجانب قصر الحكم حيث اشتهرت المحال وكبار التجار بألقابهم أكثر من أسمائهم شعراء الجاهلية اشتهرت ألقاب الشعراء في الجاهلية أكثر من أسمائهم، ولا أدل على ذلك إلاّ تداولها بين المؤرخين والأدباء ك"الفند الزماني" و"النابغة الذبياني" و"الأعشى القيسي" و"الهمداني"، وكذلك "الأقشر" و"الأعصر" و"الحطيئة" الذي أدرك الجاهلية والإسلام، حيث يُعني في لغة العرب القصير والقريب إلى الأرض، كما أن منهم من نسب إلى أمه ك"السليك بن سلكة" و"ابن زيابة" و"ابن دارة"، وهو أيضاً مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام، وكذا كان "قطري بن الفجاءة" في عصر بني أمية. كان لقب "قوقل" عائدا لرجل من الأنصار يُعرف أبناؤه ب"القواقل" ومنهم صحابة أجلاء مثل "عبادة بن الصامت" و"النعمان بن قوقل" -رضي الله عنهما-، وقال "ابن هشام": "إن القوقلة ضرب من المشي"، وقال "ابن دريد": "القوقلة التغلغل في الشيء والدخول فيه"، ومن العجيب أن هذا المعنى وافق المعنى الحديث للقوقلة المشتقة من محرك البحث العالمي "قوقل"، حيث يقال: "قوقلت عن هذا المعلومة ولم أجدها"، أي بحثت عنها، وهذا قريب مما ذهب إليه "ابن دريد". ارتبط اسم الشخص بطبيعة مهنته ثقافة الألقاب ومن طرائف الألقاب لقب الشاعر "همام بن غالب" -الفرزدق-، وهو مصطلح فارسي معرب يعني قطعة الخبز، أو رغيف الخبز الذي يسقط في "التنور"، كما أن لُقِّب الشاعر "عبدالله بن قيس" وهو من شعراء العصر الأموي ب "قيس الرقيات"؛ لأنه تغزل بثلاث نساء كلهن يحمل اسم "رقية"، وكذلك لقب "دحرجة الجعل" الذي قال فيه "عبدالله السلولي": أشدد يديك بزيد إن ظفرت به واشف الأرامل من دحرجة الجعل واختلفت دواعي حمل الكُنى والألقاب مع بداية العصر العباسي، بحكم اختلاط العرب بالأمم الأخرى، وامتزاج الأمم العربية والفارسية والتركية مع بعضها البعض في مجتمعات مدنية، ما دعى إلى انتشار ثقافة الألقاب وفقاً للأقاليم والمناطق والمدن، ف"البخاري" من مدينة "بخارى"، و"الأصفهاني" من "أصفهان"، و"الطوسي" من مدينة "طوس" -مشهد حالياً-، وكذلك "الترمذي" من "ترمذ"، و"الدار قطني" من محلة "القطن" -حي في بغداد-، إضافةً إلى "البصري" من "البصرة" و"الكوفي" من "الكوفة"، وهكذا استمرت ثقافة الألقاب وفقاً للإقليم والمناطق، حتى بدت ظاهرة "العيارات" -التي لم تقتصر على العرب- تتجاوز حدود الأطر والأعراف الاجتماعية، لتظهر لنا بمظهر الطرافة أحياناً والتشفي والإساءة أحياناً أخرى. الأسماء المستعارة بدأت تنتشر مع ظهور «الإنترنت» ومواقع التواصل الاجتماعي ديك الجن لا تتعجب من أن تسمع ألقاباً ك"ديك الجن" وهو لقب لشاعر عباسي لم يبرح مدينة حمص، ولم يفد على الملوك والسلاطين في زمنه، وكان معاصراً ل"أبي تمام"، الذي ذاع صيته وبزغ نجمه حين وفد إلى بغداد وسامراء ومدح الخلفاء، على النقيض من "أبو الشمقمق" ذلك الشاعر الصعلوك المعدم، الذي طرز من خلال قصائده وأشعاره حجم معاناته من تبعات الفقر والعوز في أبيات مازالت في كتب الأدب العباسي، تنقلها كشاهد إثبات على بعض الظواهر الاجتماعية في ذلك العصر، في حين كان لقب الشاعر "إسماعيل بن القاسم" المشهور ب"أبو العتاهية" مندرج في صفة "المعتوه"، وهو المصاب بالجنون منذ رضاعته، وحمل "أبو العتاهية" هذا اللقب على الرغم من سلامة عقلة وصحة بصره وبصيرته، لاسيما وهو شاعر القصور في مقتبل عمره، وشاعر الوعظ والزهد في كهولته وشيخوخته، وقد عاصره "بهلول" الذي يصنفه أصحاب التراجم ضمن عقلاء المجانين، رغم أنه كان شاباً مشرداً يعيش حياة الزهد والكفاف، بل قد وصف بالجنون والخبل لكونه يهيم في شوارع بغداد، ويركب "عسيب النخل" والصبيان يطاردونه بالشوارع، لكنه مع هذا كان يتحاشى بلاط الملوك وقصور السلاطين الذين كانوا كثيراً ما يستدعونه ويبحثون عنه، حتى أنه يهرب منهم إلى البيد، ويتخفى عنهم بالأزقة والخلوات، لكنه إن حضر إلى مجالسهم وعظهم وأبكاهم، ويروى أن "الرشيد" طلبه ذات يوم ولما وجده الحرس أدخلوه إلى الخليفة فوعظه، وكان "الرشيد" بمدينة الحيرة في طريقة إلى الحج، وقد نزل ب"قصور المناذرة" التي أصبحت خالية من ملوكها، فرآه "بهلول" ولم يزد على أن قال: "هذه قصورهم وتلك قبورهم"، فأطرق الرشيد باكياً وأمر له بمبلغ من المال، فرفضه وقال: "أتراه سبحانه يعطيك وينساني؟"، فبكى الرشيد حتى اشفقوا عليه. رسم تشكيلي لأسواق بغداد في العصر العباسي دق صدره ومن الطرائف أن القائد العباسي الشهير "طاهر بن الحسين" كان يُلقب ب"ذو اليمينين"، وكان "أعور"، وأراد الشاعر "دعبل الخزاعي" وهو من نفس قبيلته أن يهجوه، فقال فيه: ياذا اليمينين وعين واحدة نقصان عين ويمينٌ زائدة كما كان أحد الوزراء العباسيين يلقب ب"دق صدره"، وكان تركياً شهماً ما أن يرد الناس إلى بابه ويعرضون مطالبهم إلاّ و"يدق صدره" ويتكفل بإنهاء مطالبهم، حتى عُرف بين أهالي بغداد ب "دق صدره". وعرف العرب أسماء الأضداد، وهي أن يتسمى الشخص بضد ما يتصف به، ولا أدل على ذلك إلاّ "قبيحة" -جارية الخليفة المتوكل التي عرفت بالحسن والجمال-، كما عُرف ابنها الخليفة العباسي "المعتز بالله" بطلعته البهية وجماله، وكذا كان الشاعر الضرير "أبو العيناء" و"كافور الأخشيدي" يسمى "أبو المسك" رغم سواد بشرته. وقد اعتادت العرب أن تسمي مواليها بأسماء الأحجار الكريمة والعطور النفيسة وإن كان "كافور" أحدهم، فإن العلامة والأديب والجغرافي المشهور "ياقوت الحموي" كان صبياً رومياً بيع في "سوق النخاسين" وسمي "ياقوت" جرياً على عادة العرب في تسمية مواليهم، لذا كانت ألقاب "مرجان" و"فيروز" و"لؤلؤ" -وهو مملوك تركي- و"مسك" و"عنبر" و"ريحانة" و "زمردة"، من أشهر الأسماء والألقاب التي أطلقها العرب على مواليهم. فلان السقا نسبة لتوصيله الماء إلى المنازل الواء واء ومن لطائف الألقاب "أبو ثور"، وكان لقباً لعالم جليل لا يخشى في الله لومة لائم، قال عنه الإمام "أحمد" -رحمه الله-: "أبو ثور قال كلمة الحق عند أبو جعفر، وأبو جعفر أبو جعفر"، ويقصد أن "أبو جعفر المنصور" كان مهيباً سريع الفتك بخصومه، بل إن من غريب الألقاب والكُنى ما كان يحمله نقيب الأشراف بمصر حيث يعرف ب"ابن طباطبا"، وربما مازالت ذريته منتشره في أصقاع العالم الإسلامي والخليج، كما كان "ابن دقيق العيد" و"ابن سيد الناس" و"ابن خرداذبة" و"ابن تغري بردي" من مشاهير علماء المسلمين ومؤرخيهم، كما كان "الواء واء" لقب لشاعر دمشقي يدعى "أبو الفتوح محمد بن أحمد الغساني"، عاش في القرن الثالث الهجري، وكان فقيراً يبيع البطيخ ويعمل جابياً لفندق في دمشق في العصر العباسي الأول، ولقب ب"الواء واء" لأنه يصيح لبيع بضاعته، ولقبه مأخوذة من "الوأوأة"، وهو صوت ابن أوى. حيص بيص وحمل ثمة شاعر آخر نفس اللقب، وعاش في نفس المدينة ولُقّب أيضاً ب"أبي الفتوح" إلاّ أن الأول عاش في القرن الهجري الثالث، والثاني عاش في القرن السادس، أما لقب "الخبز أرزي" فكان أيضاً لشاعر عباسي فقير، لم يلتحق بالكتاب بل كان أمياً لا يعرف القراءة ولا الكتابة، ويعمل خبازاً بالبصرة، وأثناء عمله كان يردد أبيات الشعر، التي يجتمع الناس لسماعها، حتى كان يحضر إلى مخبزه في ليال البرد والمطر جملة من أعيان ومشاهير العلماء ورجال الدولة، ويتحملون دخان تنوره وضيق محله لأجل جميل شعره، فقد كان شاعراً مبدعاً له قصائد غاية في الحسن والجمال. وعلى الرغم أنه عرف بالغزل إلاّ أن قصائدة كانت تطير في شوارع وميادين البصرة يرددها الصغير والكبير، أما الشاعر الملقب ب"صر بعر" فقد خفف عنه حمل هذا اللقب أحد الأمراء حين قال له: "أنت صر در" لا صر بعر" وشتان بين الإثنين، في حين كان" تيس ديك الجن" لقب لشاعر أندلسي وربما كان ذلك لتشابه شعره بشعر "ديك الجن" الشاعر العباسي آنف الذكر، أما ابن "لنكك" فكان شاعر البلاط الذي لا يغيب عن مجلس الوزير "المهلبي" في بغداد، وكان معاصراً ل"المتنبي"، وهو ممن يحضرون إلى مخبز "الخبز أرزي" لسماع الشعر، كما حمل "المتنبي" هذا اللقب لادعائه النبوة حين شبابه، لذلك تجنبه الناس وعاقبه الأمير، بينما ظل الشاعر العباسي "أبو الفوارس شهاب الدين الصيفي التميمي" يحمل لقب "حيص بيص"؛ لأنه خرج مرة من منزله وقد سمع جلبة في الحي فتساءل: "ما بال الناس في حيص بيص؟"، فطار به اللقب، وكانت العامة تسمي أخته "دخل خرج" وأخوه "هرج مرج". تأبط شراً» اشتهر باعتراض القوافل ومعاونة المحتاجين وظائف ومهن كان "سيبويه" مصطلح فارسي معرب معناه رائحة التفاح، كانت أمه تحمله حين كان طفلاً، وتعطره وتلعبه وقد سمته بهذا الاسم، وقال البعض لأنه -رحمه الله- كان جميلاً، وكانت وجنتاه كالتفاح، وكذلك كان ابن "خالوية النحوي" وابن "مسكويه" و"نفطويه" الذي جمع بين العربية والفارسية، ولقب بذلك تشبيهاً له بلون النفط، الذي عرفه أبناء ذلك الزمان من خلال استخدامه في المواقد واشعال النار. وبعيداً عن الأقاليم وتسمية الموالي اشتهر العصر العباسي أيضاً بالألقاب وفقاً للوظائف والمهن ف"البزاز" لقب لكثير من العلماء ك"الإمام أبي حنيفة"؛ لأنه كان بزازاً أي يبيع الأقمشة، وعلى هذا كان "النحات" و"الحداد" و"الرفاء" و"الكاتب" و"السقاء" الذي يبيع الماء، وكذلك "البقال" الذي يبيع البقول، ويختلف عن الباقلاني الذي يبيع "الباقلاء" وهو الفول وبه عرف العالم "أبو بكر الباقلاني"، كل هذه الألقاب وغيرها كثير كانت تحمل مسميات حرفية ومهنية اشتهرت في عصور الحضارة وسكنى المدن في العصر العباسي. أسماء مناطق وانتشرت الألقاب التركية في القرون الأربعة الأولى من الألفية الهجرية الثانية، حيث ظلت إلى يومنا هذا تحمل أسماء لكثير من العشائر والأسر العربية وغير العربية في مختلف بلدان العالم العربي، ك"اليازجي" التي تعني وظيفة الكاتب، و"الياور" التي تعني "معاون"، و"العلايلي" التي تعني الفرقة من الجند، وكذلك "الخاشقجي" وتعني صانع أو بائع الملاعق، و"الجنزوري" وهو الذي يقيد الناس بالسلاسل، و"الشلبي" وهو اللطيف الجميل، أما التسمية على المناطق والأقاليم في الزمن العثماني فأشهرها لقب "الأرنأوطي" ويقصد به "الأرنأوط" وهم سكان ألبانيا، وكذلك "البشناقي" من "البشناق" وهم سكان البوسنة، وكذلك "آباظة" وهو من "آبازة" اسم الأبخازيين في اللغة التركية، و"كاشغري" من إقليم "كاشغر" بالصين، و"الشركسي" من "الشركس" وهم سكان شمال "القوقاز" و"الشيشان". تكّلف ومبالغة ومع بداية الستينيات والسبعينيات الميلادية شاعت ظاهرة الألقاب والكُنى بين الشعراء، والعجيب أن كثيراً من هذه الألقاب لم تسلم من التكلّف والمبالغة، كأن يتلقب بعضهم ب "الفتى المحروم" أو "مخاوي الأسى" أو "نديم الأحزان"، على الرغم أنه يعيش ربيع العمر ورغد العيش، وهو على النقيض مما كان عليه الأجداد قبل أكثر من (100) عام، حيث يحكي التاريخ قصة "معشي الشجر" الذي فرح -من كرمه وسخائه- برؤية الأشجار في أطراف المدينة ظناً منه أنها وفود سوف تنزله به، وكان حينها ضعيف النظر طاعناً بالسن، وربما لهذا راج بين الناس مصطلح "شوف شجر"، لا سيما وأن لهذا التعليق امتداد تاريخي، حين رأت "زرقاء اليمامة" رجال قومها على بعد ثلاث ليال، وقد لبسوا أغصان الأشجار للتخفي، وحينها أخبرت قوم زوجها فسخروا منها، فصبحتهم الجيوش من الغد، وقالت "زرقاء اليمامة" في ذلك: إن أرى شجراً من خلفها بشر فكيف تجمع الأشجار والبشر؟ ثوروا بأجمعكم في وجه أولهم فإن ذلك منكم فالعموا ظفر رسم توضيحي لتجمعات الشعراء والمشاهير في دمشق عاصمة الأمويين أسماء مستعارة وظل اللقب منذ عدة قرون مرتبطا بالشعراء حتى في العصور المتأخرة، التي ما زال عشاق الشعر والأدب يرددون فيها أشعار "سرور الأطرش" و"حميدان الشويعر"، و"ابن ريس" الذي عرف فيما بعد ب "ابن ظلعان"، كما عرف العالم العربي "بدوي الجبل" و"الأخطل الصغير" وأسرتا "طوقان" و"أبو ريشة"، اللذين كانا أخوين وفرق بينهما والدهما بأن ألبس أحداهما طوقاً والآخر ريشة كي يميزهما، فأصبح الاثنان جدين لأسرتين أدبيتين أخرجتا جيلاً من الشعراء والشاعرات. وفي عصرنا هذا ومع بدايات العمل والكتابة الصحفية، راج بين كتاب وأدباء المملكة ظاهرة الألقاب أو الأسماء المستعارة، حتى بدت الصحافة وكأنها مسرح للصراعات الأدبية بين الأدباء أنفسهم. وفي طفرة وسائل الاتصال الإلكتروني ظهر جيل من الألقاب الساخرة والجادة، من خلال موجات الأثير وعالم الاتصال اللاسلكي والفضائي، وعبر متصفحات "النت"، ورسائل (SMS)، وكذلك عناوين "تويتر" و"فيس بوك"، ففي حين تشاهد ألقاباً مثل "سهام الأسحار" و"سارية الجبل" و"ناصح القرية"، تجد في المقابل ألقاباً هزلية كتلك التي حملت لقب "أمورة لكن مغرورة" أو ذاك الذي مازال يزهو بلقبه "صريح لكن جريح"، ومثل هذا كثير في عالم الفضاء المفتوح.