يعجل بعض القراء في رد ما يُطرح، ويسارع إلى رفضه؛ وهم لو أعطوا الكاتب فسحة من القول حتى يبين عن رأيه عبر مجموعة من المقالات لكان هذا هو الحري بهم، واللائق بأمثالهم؛ لكنهم اعتادوا العجلة في الرد قبل أن يستبينوا حجة المتحدث كلها؛ فكانت حالهم مع المقالات كحال من يقرأ مبحثاً من كتاب، أو فقرة من مقال، ثم يرد بها كل ما جاء فيهما قبل أن يطلع على كل ما يريد الكاتب إطلاعه عليه، وإخباره به، ومثل هذه العادة تجري لنا جميعا، ويقع فيها معظمنا، وهي تُوضّح المساحة الضيقة التي يُتيحها الإنسان لغير ما سبق علمه إليه، وانتهت به المعرفة عنده. إن إغلاق باب الرسالات الإلهية، وختمها بالإسلام، يُلغي تماما الاتكاء على الخوارق والمعجزات، ويذر الإنسان من كل شيء إلا من عقله، وحسن تدبيره وتوفيق الله له، (فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فعليها)، فذاك مبدأ ديني يصدق على المهدي وغيره من المصلحين لست أدري ما الذي يجعل بعض القراء يستشعر أن الكاتب لا يملك من الحجة على رأيه، والتدليل له سوى هذا المقال، الماثل بين يديه؛ خاصة إذا كان محور القول قضية عجيبة كقضية المهدي التي تحمل بين يديها مجموعة من النصوص الحديثية، ذات الاختلاف الكبير على أكثر من صعيد؛ ما يجعلها ثريّة في تنوع المعنى المأخوذ منها، ومطمعاً لكل من يسعى أن يُعيد النظر في صورة المهدي الذي ما زال المسلمون ينتظرونه منذ قرون طويلة. لم أجد في مثل هذه المواقف إلا دلالة على إيثار المرء الرفض وتقديمه على غيره؛ ما يجعل من يطرح طرحاً خلاف ما يعتقده كثير من الناس محتاجاً أن يعصر ذهنه ما استطاع حتى يحوز طرحه على القبول، أو على أقل تقدير لا يستوحش منه الناس، ويبادرون صاحبه بالتهمة وسوء الظن؛ فعلى مقدار حجتك، ووضوح بينتك، يكون توقي الناس لك، وسلامتك منهم؛ وإن كانت السلامة عزيزة، والتوقي يسيرا. وحين أشاهد مواقف الناس ممن يطرح بين أيديهم خلاف ما استقر عندهم، واتفق أكثرهم عليه، أتذكر تلك المقالة الشعبية التي لا أعلم الآن مصدرها، ولا أعرف فيما قيلت؛ لكنها مقالة جديرة أن تُورد في مثل هذه المواقف؛ إنها قول الناس: الأول لاعب، والتالي تاعب! فمن يتحدث اليوم إلى الناس بمفاهيم الماضي يأسرهم، ويكسب رضاهم، ويقبلون عليه، ولا يُتعبونه بالأسئلة والاستفسارات والاعتراضات؛ فقد مهّد له الأول الطريق إلى هذا، وأعانه عليه؛ لكنك تراهم حين يُحدثهم غيره، ويرسل إليهم الرسائل سواه، يقفون جميعا في وجهه، ويعترضون عليه، ويُسفّهون رأيه، وحينها ترى أن هذه المقالة - إن صدقت على شيء - فهي أكثر صدقا على صناعة الأفكار، وتجديد الوعي، وإعادة النظر؛ فالقائم بهذه الوظيفة، والساعي أن يكون من أهلها هو أكثر تعبا، وأعظمهم جهدا، وشاهد هذا اليوم أننا قَبِلنا التغيير المادي في حياتنا، وأنسنا به، ولم نعد نستطيع البقاء دونه؛ لكننا ما زلنا نقاوم بشدة أي تغيير في الثقافة والفكر؛ ولو كان ما يُطلب تغييره من قبيل الغرائب والخرافات والأساطير؛ كبعض ما يُنسب إلى المهدي، ويُعزى إليه حين ظهوره! لهذا الفريق من الناس أن يختار ما شاء، ويميل إليه؛ لكنه لا يستطيع أن يُغلق أعين غيره عن التأريخ، ويسدّ دروبهم إليه؛ فقد علموا أن أبا القاسم - عليه الصلاة والسلام - قد مكث ثلاثة عشر عاما في مكة، يدعو قريشا، ويحثها على الإسلام؛ لكنها لم تستجب له، ولم تتوقف عن إيذائه، وهو في كل تلك الفترة لم تظهر الخوارق للناس بين يديه، ولم يكثر المال عنده؛ فيوزعه على الناس، ويستحثهم به على الإسلام، ويسترقّ قلوبهم عليه، وعلى أصحابه، بل مكث في مكة لا يملك من الدنيا، ولا من الخوارق، ما يُثبت للناس به صدق دعوته، وحقيقة رسالته، فلم ينقل لنا المؤرخون مثلا أنه جمع الناس، وندبهم إلى الاجتماع، ثم أظهر لهم الخوارق، وأبدى لهم ما يجعلهم إلى دينه يُقبلون، وإلى طاعة ربه يُسرعون! لكنه حين ترك مكة وأقبل إلى المدينة، وآمن به من لا يرجو منه دنيا، ولا ينتظر عنده الخوارق، كثر المال عنده، وغزُر النوال بين يديه، فأقبلت على دعوته العرب، ودانت بما كان يدعوهم إليه ويرفضونه! ومثل ذلك كان معه في المدينة حين قدم إليها، وكان فيها من اليهود الجمع الغفير، فلم تذكر لنا كتب التأريخ أن الرسول عليه الصلاة والسلام دعاهم إلى رؤية المعجزات التي يُظهرها الله تعالى له، ويخصه بها؛ لعل ذلك أن يكون سبب إسلامهم، أو داعيهم إلى ترك الكيد له، والتربص به وبدعوته. ولم يجرِ لصاحب الدين الخاتم ما جرى لموسى عليهما الصلاة والسلام حين ظهرت على يديه المعجزات أمام فرعون، واتضحت لقومه في يوم الزينة، فآمن به من آمن، وكفر من كفر، بل ظل يدعو قومه، ويدعو الناس إلى الإسلام دون أن يعدهم بمعجزات، أو يُظهر بينهم الخوارق، وما كان له أن يصنع غير ذلك، فهذه هي السنة الإلهية الجديدة مع الدين الخاتم (وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذّب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها). فبهذا الدستور الجديد أضحى الإنسان موكولا إلى عقله، إن شاء آمن، وإن شاء كفر، وليس له على الله تعالى حجة بعد ذلك. فما من حق أحد من الناس بعد هذا أن يقف بين يدي الله تعالى يوم القيامة، ويقول له: يا رب لم أر المعجزات، ولم أُبصر خوارق الأنظمة الطبيعية، فكيف أؤمن بك، وأُصدق نبيك! يا رب لقد أرسلت رسلك الأولين، وأظهرت على أيديهم المعجزات، فآمن بهم أقوامهم، وصدّقوا دعوتهم، وأنا عشت في زمن لم أر شيئا من ذلك فيه! فبالإسلام الدين الخاتم رُفضت هذه الحجة، وانتهى الإنسان الذي يُقاد بالمعجزات، ويُقنع بالخوارق، وبدا إنسانا جديدا، عمدته العقل، ومرجعه إليه، يقود نفسه به، ويُسأل بعد ذلك عن اختياره، وهذا ما يجعلني أميل إلى الربط الوثيق بين خاتمية الإسلام وتدشين عصر العقل، ومسؤولية الإنسان، إلا أنه تدشين أعاقته حياة الأولين، ومنعته صراعاتهم المذهبية، فأضحى المسلم يُقنع بالرجال، ويُقاد بما يدور حول شخصياتهم من مثاليات، هي كالأساطير، في الدين والعلم! لا يستطيع قارئ أحاديث المهدي، وما فيها من خوارق، أن يتخلص من سيرة النبي عليه الصلاة والسلام ومبدئه الديني الذي جاء به من عند ربه تعالى وأوجزته لنا الآية الكريمة السابقة، وسيقوده هذا المبدأ إلى طرح السؤال التالي: لماذا تظهر المعجزات وخوارق النظام المستقر على أيدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ؟ وجواب هذا السؤال أمران؛ فإما أن تظهر المعجزات من أجل الدعوة، وإقناع المدعوّ بها، وإظهار أنها من عند الله تعالى وإما أن تظهر المعجزات كرامة لهذا الإنسان، وتقديرا له. والأول في حق المهدي باطل؛ لأنه ليس بنبي ولا رسول، ولأن الله تعالى أجرى سنة جديدة بمجيء الإسلام؛ إذ أصبح المرء يُقنع بعقله، ويُقاد به، ولم يعد مُكلفا شيئا لا يستطيع أن يعقله، أو يعي به. والقول بالثاني، والميل إليه، خلاف الحكمة؛ لأن المعجزات والخوارق إذا لم تظهر على يد النبي عليه الصلاة والسلام ؛ إقناعاً للناس بالدين، وإقامة للحجة عليهم؛ فكيف بها تظهر أمامهم إكراما لهذا الإنسان أو ذاك؟! إن إغلاق باب الرسالات الإلهية، وختمها بالإسلام، يُلغي تماما الاتكاء على الخوارق والمعجزات، ويذر الإنسان من كل شيء إلا من عقله، وحسن تدبيره وتوفيق الله له، (فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فعليها)، فذاك مبدأ ديني يصدق على المهدي وغيره من المصلحين، فتكون دعوتهم للناس مبناها على الابتلاء والاختبار، ولا معنى للابتلاء والاختبار إلا بوجود العقل وتحكيمه، وغياب المعجزات والخوارق، ولهذا يُعزى إلى الإسلام أنه دين العقل، ومؤسس الحرية، وهما (أقصد العقل والحرية) وجهان لعملة واحدة؛ فلا يؤمن بالعقل من لا يؤمن بالحرية؛ لكن الإسلام آمن بهما، وجمع بينهما، وهذا في ظني هو تفسير ختم الأديان بهذا الدين، وعلة إنهاء الرسالات به؛ فقد أصبح به الإنسان مسؤولا عن نفسه، (بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره)، وليس للآخرين عليه من سبيل سوى الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة. إذن الأساطير والخرافات المذكورة في بعض أحاديث المهدي يرفضها مبدأ الابتلاء الديني الذي يقوم على عقل الإنسان، وحريته في الاختيار، وتفسير ظهورها عزيزي القارئ موجود في التقليد والإنسان المقلد؛ إذ مثل هذه المعجزات والخوارق (التي سميتها الأساطير والخرافات) يحتاجها المقلد الذي لم يعتد على الإفادة من عقله، واللجوء إليه؛ ليؤمن به، ويتبع سبيله، وهكذا تكون هذه الأساطير من إدخال ثقافة التقليد على تلك النصوص، ومن إضافة المقلد إليها؛ فهو الإنسان الذي لم يعتد على الاحتكام إلى العقل، والتنازع إليه، فاضطرته حاله أن يجعل المهدي على الصورة التي تُمكّنه من تصديقه، والميل إليه؛ لأن المهدي إذا لم يظهر على هذه الصورة الأسطورية فلن يكون لهذا الإنسان المقلد شرف اتباعه، وفضيلة الاقتداء به؛ لكن مبادئ الدين الخاتم، ويقظة العقل كانتا بالمرصاد لتلك الإضافات التي لا يستفيد منها إلا المقلد المذهبي الذي لا يستحق أن يُراعى أو يُفطن له؛ لأنه أهدر أعظم شيء يُدعى إلى توظيفه واستعماله، وهو العقل..