لا تشيع الأساطير، ولا تعم الخرافات، إلا حين يُقدّس الإنسانُ الإنسانَ؛ فينخدع به، وبما يظهر على يديه، وينطق به لسانه، فالتقديس هو المدخل للقبول بالأساطير، والإيمان بالخرافات، وما دام داء التقديس عنصرا مشتركا بين الأمم؛ فسيكون لكل أمة أساطيرها تتشكل أساطير كل أمة حسب المفاهيم الثقافية الراسخة فيها، والمتأصلة في وجدانها، فهي المنفذ للإقناع بالغريب، والانقياد له، فذلكم هو الذي يضمن لتلك الأساطير البقاء، ويكفل لها السيادة، ويسمح لها أن تجتاز عقول أمة من الناس، وتحتلّ أفقها؛ فلولا أنّ الأسطورة والخرافة تعتمد في إقناع الناس على أرسخ القناعات فيهم، وأوثق عندهم، وألصقها بقلوبهم، لم تستطع أن تترسخ في قلوبهم، وتحتل عقولهم، ويمكث الناس أدهرا يرددونها، ويطربون للتحدث بها، فلا يزيدها تقادم الزمن إلا رسوخاً، ولا يُضفي عليها كرّ الأيام إلا ثباتاً. أرجح الظن أن صناع الأساطير في الأمم قبلنا كانوا من ذوي التأثير الكبير، والحضور الفاعل، والصوت النافذ، فذا هو الذي يجعل الناس ينساقون وراء ما يقولونه، ويؤمنون به، ويُقبلون عليه؛ فلولا هذه الخصلة في منتج الأساطير وصناع الخرافة ما كان لها أن تستولي على عقول الناس، وتستحوذ على ألبابهم. إذن لا تشيع الأساطير، ولا تعم الخرافات، إلا حين يُقدّس الإنسانُ الإنسانَ؛ فينخدع به، وبما يظهر على يديه، وينطق به لسانه، فالتقديس هو المدخل للقبول بالأساطير، والإيمان بالخرافات، وما دام داء التقديس عنصرا مشتركا بين الأمم؛ فسيكون لكل أمة أساطيرها، ولكل أمة خرافاتها؛ لكن كل أمة لا تُبصر غباء أساطيرها، وفجاجة خرافاتها؛ لأنها نقلتها عمن تثق به، وتُقدس حاله. الإنسان يُؤتى من حيث أَمِن! ولا يأمن الإنسان من أحد إلا حين يُقدسه، ويعيش عقله في سبات عنده، وهذا المعنى عُبر عنه في القرآن الكريم باتخاذ الأرباب؛ فقال الله - تعالى -:(ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله) فالرب - سبحانه - هو وحده الذي لا يرد قوله، ولا يُعترض على مراده. صحيح أننا لا نجزم بأن صناع الأساطير ومختلقي الخرافات كانوا على علم بخروجها عن سنن الحياة، وابتعادها عن قوانينها؛ لكن هذا من أمرهم لا يهم؛ وإنما الذي يعنينا هو أن نُقر بهذه المقدمة؛ حتى يصبح ما في أيدي الناس محترماً مقدراً؛ فالاستهزاء بهم، والسخرية بما هم عليه هو أخصر الطرق إلى خسارتهم، ومناصبتهم لنا العداء! وهذا هو موقف الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -؛ إذ كان من دعوتهم أن يَدَعُوا السخرية بالناس، وبما هم عليه، وما قول الله - تعالى -: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم) عنا ببعيد؛ فلِمَ لا نأخذ من هذه الآية الكريمة شيئاً من أبعادها الإنسانية في احترام ما عليه الناس، وتقدير ما يقدسونه؛ وإن كان بنا قوة على النقد، ومقدرة عليه، فلنبدأ بما في أيدينا، وما حولنا! من الخير لنا، والإنصاف لغيرنا أن نبدأ بنقد تراثنا، ومراجعة ما فيه؛ فذاك بنا أولى من أن ننشغل بما في أيدي الناس من نظريات ومفاهيم وأفكار وخرافات. وأنا اليوم أنوي القيام بهذا الدور، وأسعى لكشف شيء من الأساطير في أحاديث المهدي؛ رغبةً مني في تحقيق أمرين؛ أولهما عندي، وأقربهما إلى نفسي، أن أُزيل عن صورة الإسلام هذا التشويه، وثانيهما أن أقف من تراثي موقفي في الحذر من تراث الآخرين. وأول حديث يُواجهنا عند الحاكم - رحمه الله - قول ابن عباس - رضي الله عنهما -: «وأما المهدي الذي يملأ الأرض عدلا؛ كما ملئت جوراً، وتأمن البهائم والسباع، وتُلقي الأرضُ أفلاذ كبدها. قال: قلت: وما أفلاذ كبدها؟ قال: أمثال الأسطوانة من الذهب والفضة» هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه». تشترك الأساطير والخرافات في قيامها على تغيير أنظمة الكون، وتبديل سننه، وهذا هو الذي نقرؤه الآن في هذا الحديث؛ فأول الأساطير أن «تأمن البهائم والسباع»، فالعالم الذي يخرج فيه المهدي عالم آخر، ليس لنا ولا للناس به عهد؛ إذ لم يعرف البشر في تأريخهم كله أن تبدّلت العلاقة بين البهائم والسباع، فأمنت البهائم منها، وعاش الجميع في أمن وسلام؛ لكننا قبلنا بهذا القفز على أنظمة أجراها الله - تعالى - منذ خلق الأرض، وأودع فيها ما أودع، فجعلنا خروج المهدي سبباً في تبديل هذه القوانين، التي لم تُبدل لمن هم خير من المهدي، وهم أنبياء الله - تعالى - ورسله. ليس أمامنا في تحليل هذا الأمن، الذي يسود عالم الحيوان سوى أن نعزو إلى الله - تعالى - إشباع رغبات السباع، وإطعام بطونها؛ فلا تضطر لأكل البهائم، وافتراسها. وإذا كان هذا هو الرأي المقبول في تحليل هذا الأمن، وتفسير أسبابه، فقد كان من حصافة صانع الحديث، وأمارات ذكائه أن يُجري قانوناً واحداً على علاقة الحيوان بمثله، وعلاقة الإنسان بالأرض، فيغني الله - تعالى - الإنسان، كما أغنى السباع، عن أن تجود له الأرض بما فيها، وتلفظ بكنوزها بين يديه. وبعد ذلك تأتي الأسطورة الداهية «تلقي الأرضُ أفلاذ كبدها. قال: قلت: وما أفلاذ كبدها؟ قال: أمثال الأسطوانة من الذهب والفضة» فعهدنا بالإنسان منذ وُجد على هذه الأرض يسعى في رزقه، ويبذل جهده فيه، ينحت الصخر يطلب في أغواره الماء، ويحرث الأرض يتطلع إلى عيشه منها، وذلكم هو قانون الحياة، الذي فقِهه الإنسان، وسار في الحياة على هداه، (واسعوا في مناكبها وكلوا من رزقه)؛ لكنه قانون يحتفي بالمهدي؛ فيغيب من الحياة، ويتوارى عن أهلها، ولسنا ندري أيعود بعد ذهاب المهدي ومماته أم تبقى الحياة على هذا السيناريو الأسطوري؛ فيحق لنا أن نجزع - نحن أهل هذا الزمان - من أن شاءت أقدار الله - تعالى - لنا أن نعيش في عالم، لا نجد فيه محاباة، ولا نسعد فيه بالراحة والاطمئنان، بل نعيش فيه في كَبَد وكد (لقد خلقنا الإنسان في كبد). مثل هذا الحديث تجد السني والشيعي يُورده، ويُروّج ما فيه على الناس، يجتمع هذان المسلمان على خرافة واحدة، وهما اللذان ما زال أحدهما يطعن في الآخر، ويهزأ من تراثه، فسبحان من جمع قلوب الطائفتين على مثل هذه الأحاديث، التي تصطدم بالدين وقوانين الحياة معاً! تلك القوانين التي عرفها العقل، وأصدر قوله في ثباتها، وعدم محاباتها. حين تقرأ هذه الأساطير ترد في بالك قصص الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - مع أقوامهم في القرآن، فتمر عليك قصة نوح - ص -، فتجده يقضي زمناً في بناء سفينته، وإعدادها لإبحاره، ولا تجد في قوانين الأرض لُيونة له، ومسامحة معه، ولا تسمع خبراً عن إلقاء الأشجار بألواحها بين يديه؛ لتُعينه على تشييد الفلك، وإتمام بنائه؛ لكنك تجد هذه القوانين الشحيحة عليه كريمة مع المهدي، تعطيه عطاء من لا يخشى الفقر! وحين تقرأ هذه الخرافات، التي يريد الوعاظ وأشباههم أن نصدقها في حق المهدي، تمر أمام عينيك قصة أبي القاسم - عليه الصلاة والسلام - مع قريش، فتتذكر بأسى إقامته مع أهله وأصحابه في الشِّعب، وتتذكر ما كانوا يقتاتون عليه، ويدفعون به عن أنفسهم الموت جوعاً، فتثور نفسك ثورة عارمة تجاه هذه القوانين، التي خنعت للمهدي، وأسلمت له نفسها، وبخِلت على خليل الرحمن، وختام رسله! ومرة أخرى تخطر أمامك قصة الهجرة، ومكابدة خليل الرحمن في الرحلة من مكة إلى المدينة، وتنغيص سُراقة بن مالك عليه، وعلى صاحبه، فلا تعثر في الروايات على ما يومئ إلى حنان قوانين الحياة، وتلطفها معهما، وهما اللذان يكابدان مكابدة عظيمة، ومتى ما وقع لخليل الرحمن شر، توقف التبليغ، واندثرت الرسالة؛ لكنك تعثر عليها مع المهدي، تمنحه، وهو غير محتاج، ما لم تضعه بين يدي حملة الرسالات، ونقلة الديانات! فتصبح القوانين بهذا تمنح غير المحتاج، وتمنع فضلها المضطر. ولا تتوقف الأساطير عند هذا الحد، ولا تنتهي الخرافات إلى ما انتهت إليه سلفا، بل نرى - أيها السادة - ابن حبان - رحمه الله - يروي في صحيحه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال متحدثاً عن أعداء المهدي:» فيبعثون إليه جيشاً من أهل الشام، فإذا كانوا بالبيداء (الصحراء) خُسِف بهم، فإذا بلغ الناسَ ذلك، أتاه أبدال الشام وعصابة أهل العراق فيُبايعونه». والخرافة هنا ضخمة جداً، يصعب قبولها، ويستحيل هضمها، وإن قبلها الوعاظ، وصدّق بنسبتها إلى رسول الله - ص - الناس؛ فنحن هنا أمام حالة نادرة، وواقعة شاذة، لم يقع مثلها للأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وهم أرباب الرسالات، ونقلة الوحي إلى الناس؛ فكيف جاز مثلها للمهدي، ودين الله - تعالى - محفوظ بحفظ كتابه، ومصون بصونه؟! من يتأمل سير الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في القرآن الكريم يجد بذل الجهد، واستيعاب الطاقة، واستنفاد القوة، (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين) سعياً في إصلاح الناس، واجتذابهم، ومع كل ذلك لم يكن الأنبياء كلهم من ذوي التوفيق مع أقوامهم، فثمة ثلة منهم، كما جاء في الحديث، يأتون يوم القيامة، وليس معهم أحد!! فكيف يجري هذا لهم، يَنْصَبُون فيه، ويَشْقَون في تحقيقه، ثم لا يحصلون منه على شيء، ويأخذه المهدي، وهو أقل منهم بلا ريب، هنيئاً مريئاً! كيف يُبتلى الأنبياء، وهم أصحاب أصول الدعوة إلى الله - تعالى - وتجري الأمور مع المهدي على غير الابتلاء، الذي هو القانون الوحيد في علاقة النبي بقومه، والمصلح بمجتمعه؟! لو كان الأنبياء على حال المهدي، المذكورة في الحديث، حين إرسالهم إلى أقوامهم؛ تُخْرِج لهم الأرض كنوزها، وتخسف بأعدائهم؛ فتنصرهم قوانين الكون الثابتة بتغيّرها، لما قُتِل منهم من قُتل، وشُرّد منهم مَنْ شُرّد! ولرأيتهم أكثر الناس أتباعاً، وأقلهم أتعابا؛ لكنه العقل غاب فنسي أصحابه المطرد، وحوّلوا الشاذ إلى قانون، وما الأساطير والخرافات إلا ذاك.