أتابع بعض البرامج التلفازية ذات الصبغة الثقافية في إعلامنا المحلي فأجد أنها مازلت تقدم مادتها باللونين الأسود والأبيض، أقصد بأنها ملتزمة بنمط خاص لاتحيد عنه، حيث مذيع وقور يستعمل لغة حوار منمقة ومزخرفة ذات مضمون خطابي ترويجي وأسئلة من نوع.. ماذا ترون؟ وماذا تتوقعون؟ ولاأدري من يقصد بواو الجماعة إذا كان المخاطب أمامه فقط ضيف معتقل ومحاصر فوق مقعد، تمرر له طوال اللقاء رسالة بأن هناك برتكولا صارما لابد أن يتبع داخل الكادر التلفازي، برتكول تغيب عنها التلقائية والمتعة ويغلب عليه الازدحام اللغوي على حساب الصورة.. فيبدو كأنه حوار إذاعي وليس حواراً داخل إطار تلفازي تلعب فيه الصورة وتحولاتها دورا كبيرا في شرط جودتها وجذبها للمشاهد. فإذا عرفنا أن الأبحاث في مجال الصورة الإعلامية تؤكد أن المتابع يمنحك فقط 45 ثانية من وقته ليحدد هل سيستمر معك ويكمل المشاهدة أو سيقلب فارّاً إلى قناة ثانية، سنعلم طبيعة التحديات التي تحدق بمعدي البرامج الحوارية والثقافية. ومقارنة هذا الزمن الخاطف المتاح لاستقطاب اهتمام المشاهد مع الساعات المطولة التي تمططها البرامج الثقافية المحلية تجعلنا نشعر بأن هناك خللاً ما، أو شرطاً مهنياً غائباً عن معدي تلك البرامج. فمثلا التغطية الميدانية التي تتم أثناء المناسبات الثقافية المحلية لدينا كالجنادرية، أو معرض الكتاب، نجد أن جهد الإعداد فيها يتقلص إلى حده الأدني، فهي عبارة عن مقعدين متقابلين يجلس عليهما ضيف ومذيع يبحران في قضايا يغلب عليها العمومية والخطابية مع تسطيح كبير للقضايا، ويبدو واضحا من خلالها أن المذيع لايعمل على مشروعه الثقافي ولايعد جيدا للأسئلة إضافة إلى أنه لايمتلك خلفية عميقة عن ضيوفه، فنشعر وقتها أن الضيف قد جلب فقط ليملأ الوقت والكادر ويصبح حوارهما شاحبا جافا كأنه يستجلب الماء من بئر عميقة ناضبة لنصل في النهاية إلى مخرجات هزيلة تقترب من نشاط الإذاعة المدرسية، وليست عمل قناة ثقافية مختصة المفترض بأنها تشربت متطلبات المهنة وشروطها، والتحديات التي تحيط بها. لاأحد ينكر بأن الثقافة على الغالب هي نشاط نخبوي تنحصر دائرة المهتمين بها في دوائر ضيقة، ولكن هذه المقولة قد خلخلتها الأفلام الوثائقية الرائعة التي تقدمها (الناشيونال جيوغرافيك أو الهيستوري شنل أو الجزيرة الوثائقية) التي بدورها استطاعت أن تقدم المادة التاريخية والعلمية والأدبية الثقيلة والصعبة بشكل جذاب أخاذ، فهي تدخلها المعمل الاحترافي، وتمزجها بالصورة، والضيوف المختارون بعناية، الجرافيك، والموسيقى، بشكل تجعل المشاهد مشدوها أمامها فاغرا فاهه لايستطيع أن يرفع نظره عنها للحظة. وبين تلك الأفلام وبين البرامج الثقافية.. (ماذا ترون؟ وماذا تجدون..؟) هناك وادٍ عميق من الاختلافات فلا أدري هل معدو البرامج الثقافية يتهيئون بمادة وثائقية غنية وعميقة تدعم وتثري ساعات البث الطويلة؟ لا أن يكون هناك احتفالية كبرى كالجنادرية أو معرض الكتاب، والقناة الثقافية تعرض برنامجا عن أنواع الورود وطريقة زراعتها. أنا لست متخصصة بهذا المجال ولكن أعلم بأن الإعلام الحديث داخل ثقافة الصورة بات له اشتراطات عالية وسقف متطلبات مرتفع، ولنا أن نتخيل خبرا مدته عشر دقائق مثلا في قناة عالمية متخصصة، ونتأمل مقدرا الجهد الذي أقيم للإعداد لهذا الخبر من جمع المعلومات والصور، وتسجيل المقابلات المرادفة، وجرافيك يظهر الأحداث للقاريء بشكل مكثف وممتع وملم بخيوط الحدث. المشهد في غاية الهزال، و لم أرَ برنامجا وثائقيا واحدا عن معرض الكتاب بدايته ونشأته، وتطوره، طموحه يخالف في إعداده الطريقة السردية المستهلكة، ويقدم إعلاما ثقافيا ناجحا، لما لانستثمر بمواهبنا الشابة من الشباب الإعلاميين المميزين في القطاع الخاص؟ فمن ناحية سيكون هذا دعماً لهم ولمشروعهم الوليد.. وأيضا لتجذير العلاقة بين القطاع الخاص والعام. إعلامنا الثقافي...بحاجة إلى إعادة نظر..