ليس أقل من عيد ذلك الاحتشاد حول الكتاب في المعرض المقام ما بين الثاني والثاني عشر من مارس، والذي صار بمثابة عادة مهرجانية موسمية لمدينة الرياض. الأمر الذي يثير سؤالاً على درجة من الأهمية إزاءه كحدث ثقافي، إذ لا يمكن الركون إلى كونه تظاهرة ثقافية بالمعنى المعرفي والجمالي للكلمة، بقدر ما بدا الأمر وكأنه مجرد سوق، أشبه ما يكون بالامتداد الطبيعي لثقافة (المول) التي باتت على درجة من التأصّل في المجتمعات الاستهلاكية، فكثافة العربات المعبأة بالكتب، واصطفاف الناس في طوابير عند مداخل ومخارج المبنى وحتى عند دور النشر، ليست بالضرورة علامات دالّة على التوق إلى المعرفة، بقدر ما هي مظاهر صريحة لحمى الشراء، والرغبة - الواعية أو اللاواعية - للاشتراك في تظاهرة اجتماعية يصعب تفويتها. وكأن المجتمع بأسره قد قرر عدم الذهاب إلى (المولات التجارية) لبعض الوقت، واغتنام فرصة نادرة للتثاقف بزيارة (المول الثقافي). ولا شك أن معمارية مبنى المعرض، المتماثل مع فضاء السوق، قد ساعد في اجتذاب المتسوقين، وتخفيض إحساسهم بغربة الفضاءات الثقافية، التي غالباً ما يُنظر إليها كفضاءات طاردة أو مخصصة للنخبة. كما أن تشجيع المسؤولين الملحوظ في وسائل الإعلام على تحقيق أكبر قدر من المبيعات، قد أسهم في التدافع والاستهلاك، وكأن معيارية المعرض الذي يصر الجميع على إلحاقه بمفردة (الدولي) إنما تُكتسب من ارتفاع مستوى الإنفاق، وتجاوز أرقام المعارض العربية، أو هذه هي هوية وشخصية المعرض التي أُريد لها أن تستوطن الأذهان. كذلك تم تصميم المكان وفق رؤية ترفيهية، تراعي سيكولوجيا الحشد والكرنفالية، فقد كان فيه من السحر والإغواء ما يحرّض على زيارة المعرض والتسكّع في ردهاته بشكل يومي، حتِى مع عدم توفر النية للشراء. وقد زاد في ذلك التنادي الاجتماعي، طريقة الإعلان عن الكتب التي جاءت بمثابة عرض لمنتجات سلعية، وليس طرحاً لمادة معرفية، بالإضافة إلى التأجيج الذي سبق المعرض من مختلف الفئات والاتجاهات. وإذا ما تم تجميع هذه القرائن كنظام أدلة، فإن علاماتها العميقة ستفضي بالضرورة إلى حقيقة كون المعرض مجرد سوق. إذ يبدو أن القائمين عليه أرادوا تصعيده كفضاء جاذب، بتخصيص منصات أنيقة لتوقيع الكتب الصادرة بدون مراعاة لطبيعة الإصدار أو أحقية صاحبه في اعتلاء المنصة لبرهة من الوقت كنجم ثقافي، فيما خلت صالات المحاضرات من المثقفين لأسباب تتعلق في المقام الأول بتدني مستوى البرنامج، وعدم التعويل عليه كعنوان تفاعلي للمعرض، حيث كان تهافته يساوي عدم وجوده تماماً. وهو خطأ ثقافي تتحمل وزره المؤسسة دون شك، حيث أرادت أن تحقن المناسبة الحولية بأسماء ومحاضرات كيفما اتفق، وبأخدوعات شكلانية لا تصب في المجرى السوسيوثقافي. وفي المقابل يتحمّل المثقفون جريرة الانصراف عن النشاط الثقافي إلى هبائية الحضور الوجاهي، بتحلّقهم الاستعراضي حول دور النشر، وتجوالهم الدائم أمام عدسات الفضائيات، لتصطادهم الكاميرا بصدفة مفتعلة، أو يتم استضافتهم بموعدٍ مدبرٍ سلفاً، وهو أمر لا يتطابق ما ذكره مدير (الثقافية) محمد الماضي حول عزوف المثقفين عن التفاعل مع القناة، إلا إذا كان يعني بتصريحه أسماء بعينها. ولا شك أن (الثقافية) كقناة وليدة وواعدة، نجحت في تغطية الحدث وتقديم شريحة من منتجي المعرفة المجهّلين، وليس المجهولين، الذين لم يتم استهلاكهم إعلامياً، كما أسهمت في تخفيف حدة التجابه بين القوى المتخالفة بإتاحة وساعات منبرها للجميع، لكنها في المقابل عملت كمسوّق إعلامي لفصيل من المثقفين المهووسين بالظهور الإعلامي. وعليه، فقد تمكنت في فترة قياسية من تأسيس مكتبة لما يمكن تسميته بالكتاب الرديء، جراء كثرة الإهداءات من الكتب التي تحصّلت عليها أمام العدسات. كما استطاعت أيضاً أن تراكم إرشيفاً هائلاً من اللقاءات والمشاهد الثقافية المصوّرة التي لا تشكل أي مرجعية معرفية أو جمالية. وهي اختلالات يمكن تفهمها عند النظر إلى قلة الخبرة لدى العاملين في القناة، والارتجال الذي بدا واضحاً، حيث كان الشغل الشاغل للمذيعة أو المذيع هو الكيفية التي يفترض أن يواجه بها جمهوره، حيث التأنق في الملبس، وعروض الأزياء، والتيقّن من حرفية المكياج، والمبالغة في توزيع الابتسامات المجانية، بدون أدنى اعتبار لما يحدث في خلفية المشهد، فقد كان يُشاهد - مثلاً - بعض أبناء الجاليات وهم يعدون الشاي أو العصيرات ويقدمونها لضيوف البرنامج على الشاشة بصراحة أقرب إلى الفجاجة، فيما تتسع الكاميرا لمشهد آخر يحتله مثقف وهو يجادل في المعنى الدولي للمعرض وخرزات سبحته تكر وتطقطق في الآذان بشكل مستفز. وأحياناً تنفلت الكاميرا ناحية فتاة تتصفح الكتب فتفر من أمامها فيما يشبه المطاردة العبثية. ولا يخلو الأمر من مفارقات مضحكة تحمل دلالات ثقافة (المول) وضجيجه، فالمراسل الذي وجد في المناسبة فرصته ليتعلم ألفبائية الإعلام الفضائي، كان يجوب ممرات المعرض بين ساعة وأخرى ويعود محمّلاً بكم هائل من الكتب، وبعد أن يسترد أنفاسه ويستريح من لهاثه، يستعرض أغلفتها أمام (المذيعة/المذيع) وكأنه يقدم إعلانات غير مدفوعة لمنتجات تجارية، فيما يصرخ مذيع آخر تحت التدريب في وجه ناشر مرموق بسؤاله الذي لم يتلقن ولا يتقن غيره منذ بداية المعرض حتى نهايته (ستمائة وخمسون دار نشر، وأكثر من مائتين وخمسين ألف عنوان ماذا تعني؟؟؟) فيرفع الناشر راحتيه نحو أذنيه تفادياً لصرخات المذيع. وقبل أن ينهي إجابته يحوّل المراسل الكلام لزميله بصوت صاخب وابتسامة لا معنى لها (الكلمة لك) لدرجة يُخيّل فيها للمشاهد أنه بتلك النبرة العالية ينقل مباراة من ملعب رياضي، فيما هو يقف على مسافة أمتار من زميله في الأستوديو المجاور. أسئلة كبيرة، مضحكة ومربكة وبائتة، طرحها المذيعون والمذيعات على طابور طويل من المثقفين. سألوهم بما يشبه التواطؤ عن حقيقة المعنى الحضاري للمعرض، وعن الرياض كمركز منافس وقادر على إزاحة المراكز التقليدية، حتى عن (العقل السعودي!!!) استجوبوهم باجتراء وحماسة فائضة، وكأن معرض الرياض مجرد مظهر من مظاهر الاعتراك مع (الآخر) ودحره، وليس معرضاً للكتاب والفكر والجمال، أو كما وصفه الوزير عبدالعزيز خوجة في لقائه بالمثقفين بأنه (مادة للدرس والتحليل وقياس اتجاهات الرأي والنظر في الصحف والجامعات ومراكز البحث وقياس اتجاهات الرأي العام). ولأن أغلب المثقفين لا يتوانون عن الإجابة عن أي سؤال مهما بدا وعراً، تفاعلوا مع اللقاءات والمقابلات بدافع الحمية أو النعرة الوطنية، واستجابوا لبهجة الكرنفال الذي غالباً ما يفقد منطقه هو الآخر نتيجة جرعات الانفعال العاطفي الزائدة عن الحد، حتى بدت (الثقافية) وكأنها مجرد قناة محلية محمولة على نبرة شوفينية ضيقة لا تحمل من المضامين المعرفية والجمالية ما يشي بوجود مشروع ثقافي وطني يحمل في طياته واستراتيجياته الانفتاح على الثقافات الأخرى. بلا هوادة، ولا أخلاقية مهنية، كان المذيع يسأل (يقال أن...) فيجيب المثقف بلا تردد ولا احتراز عما يقال ويشاع، وبدون أن يستفهم عن القائل ولا عن سياق قولته، فيما يكرر المذيع بببغاوية (رائع.. رائع). وهكذا صار المثقفون يتسابقون يومياً نحو المعرض وكواليسه الفندقية، من أجل إطلالة مستوجبة، مصطحبين أطفالهم أحياناً، ليلوحوا للكاميرا بابتهاج، وليؤكدوا فعلياً على معنى ومنطق العيد، لدرجة أن البعض اندمج في الطقس وصار يردد بلا وعي (ينعاد عليكم). ولهذا السبب لم يكن اللقاء المنتظر مع الوزير سوى حفلة تعارف ومجاملات باهتة. وبالتالي لم يشذ (الإيوان الثقافي) أيضاً عن استراتيجية المعرض المتواضعة، ومجرياته كمنظومة ترويجية للكتاب والكُتّاب، بل كان في أغلب الأحيان على درجة من الهلامية والخواء والبرود، حيث استبدت رغبة الحضور والتشاوف ببعض رواده إلى حد تم تحويل اللقاء برمته إلى فقرات ترويحية أشبه ما تكون ببرامج للأطفال، حيث كانوا يبالغون في التأدّب والإصغاء، بانتظار أن يُسمح لهم بالكلام، على طريقة (عندك نشيد يا شاطر). والمثير للأسى والسخرية أن بعض الشعراء المتمّنعين والممتنعين عن الكلام بحجة عدم حفظ أشعارهم غالباً ما كانوا يفاجئون المشاهدين باحضار أعمالهم الكاملة، ومسودات لأعمالهم القادمة - بالصدفة كالعادة - رغم أن معظمهم من الأسماء الفاعلة والحاضرة بشكل إعلامي فارط. أما الشاعر الذي يحظى بشرف المثول كضيف في برنامج فيكفي تأمله وهو يؤدي نصوصه بملائكية وكأنه يحلّق بعيداً خارج الأستوديو. منذ زمن بعيد والمشهد الثقافي يحلم، ويعاني من عدم وجود برنامج يعكس حقيقة الحراك الثقافي ويعرّف به. ويبدو أن قناة (الثقافية) قد قررت التصدي لهذه المهمة باستثمار مناسبة المعرض. وقد باتت منذ ذلك الحين معنية بهذا التحدي بما أُتيح لمذيعيها ومذيعاتها من متوالية برامجية قابلة للتطوير والتنافس فيما بينها، فبرنامج الصفحة الأولى، والمشهد الثقافي، والمقهى الثقافي، إلى آخر الإطلالات البرامجية، هي حتى هذه اللحظة مجرد تمرينات أولية لذوات مجتهدة لا تمتلك من المرجعيات والذاكرة الثقافية ولا حتى الحضور الشخصي، ما يكفي لاستيلاد البرنامج الموعود، فاغترابها حتى عن المفردة الثقافية والفنية يبدو واضحاً. وهنا يكمن السر في انسياق القناة لضجيج (المعرض/ السوق) وعدم قدرتها على مناقدته، أو على الأقل إنتاج خطابها الموازي، أو ربما تنازلت عن كل ذلك لتدفع للمعرض مديونية مستوجبة، حيث جاء في هذا التوقيت لينقذها بالفعل من بؤس بدايتها، إذ لم يتم التفريق في أجواء الحفلة بين متعة الانوجاد في حضرة الكتاب، وسذاجة الترويج له كسلعة.