الحكومة يجب أن تقوم بتحديد مسؤوليات وزارة العمل وجعلها المسؤول الوحيد وظيفياً ومهنياً واجتماعياً عن كل فرد مغترب يأتي إلى هذا الوطن لأن معظم المشكلة اليوم تكمن في تعدد الجهات المسؤولة عن المغتربين واستقدامهم بجميع مستوياتهم يعيش المجتمع السعودي اختبارا حقيقيا في تقدير مصلحته الوطنية والمجتمعية لوجود ملايين من العمالة السائبة غير النظامية تتجول في قارة من المساحة الجغرافية بلا هويات نظامية، هناك مؤيدون لقرار الوطن كله في تحديد المستوى المطلوب لعدد العمالة الوافدة في مقابل عدد السكان وهناك معارضون، ولكن السؤال الأهم هو لماذا يعارض الكثير من أفراد المجتمع هذه الحملة، ولماذا يستخدم البعض العاطفة الدينية للمجتمع لمعارضة هذا القرار التاريخي والذي يجب أن يصمد حتى النهاية دون توقف..؟ ولكي تكون الإجابة عن هذه الأسئلة في طريقها الصحيح فإنه في تاريخنا الاجتماعي المروي والمكتوب نجد أمثلة كثيرة على اعتماد المجتمع على مساعدة فئات غالبا ما تكون قادمة من خارج المجتمع وهذا مثبت تاريخيا على جميع المستويات المجتمعية، فمنازلنا وبجميع مستوياتها الأسرية أصبحت وبشكل كبير منذ نصف قرن تقريبا تعتمد على (العمالة الناعمة) كما اسماها أستاذي الدكتور عبد المنعم بدر، أستاذ علم الاجتماع فهو أول من أطلق مصطلح (العمالة الناعمة) في دراسة له على الخدم والسائقين في المجتمع السعودي قبل ثلاثة عقود تقريبا. في أسواقنا وأعمالنا يشهد تاريخنا المجتمعي قصة أخرى فمع بداية الطفرة أصبحت قضية جلب العمالة والمساعدين لنا في جميع شؤوننا أمرا سهلا وميسرا مما عزز ظاهرة الاعتماد على الغير ورسخها مجتمعيا فأصبح عدد العمالة في ازدياد مقلق لا يوازي أبدا حجم التنمية الموجودة في المجتمع، وتركزت هذه العمالة في معظمها في قطاع الأعمال الصغيرة والاستهلاكية والخدمية مما جعلها تعمل على شكل وكيل للمواطن في كل أعماله تقريبا وتحولت مهنة المواطن من العمل والإنتاج إلى مهنة (الجباية) وهذا ما ساهمت به الأنظمة والقوانين الخاصة بالاستقدام وهنا السبب الأول في وجود رافضين للقرار الحكومي. هناك فئات من المعارضين ترى القضية من منظور ديني عاطفي مع إغفال كبير لفكرة الضرر الاجتماعي والوطني، هذه الفئات تنسى أن المصالح الوطنية اكبر من كل شيء، فالرسول عليه السلام وبموجب اتفاقه مع المشركين في صلح الحديبية كان يرد من يأتيه مسلما لأنه التزم بالمصلحة الوطنية لمجتمع الإسلام مجتمع المدينة مع اعتراض كبار الصحابة على هذا الإجراء. أما الضعف الاخر في القضية ولا بد من الاعتراف به وهو أن الأنظمة البيروقراطية في بعض الأجهزة لم تكن تسير بنفس السرعة التي تسير بها عجلة التنمية فلم تتطور أنظمة الاستقدام وكان هذا أولى الهفوات حيث ولد نظام للعمالة ضعيف جدا ومرتبك وغير منظم وغائب عن التطوير لفترات زمنية طويلة، وما نحن فيه اليوم من امر العمالة هو جناية أنظمة العمالة في المجتمع. نحن كمجتمع ومع كل أسف نعتمد كثيرا على غيرنا في تنفيذ الكثير من الخدمات وقد استقرت هذه القيم السلبية في المجتمع إلى حد كبير وكرسها عصر الطفرة الذي ساهم في تكريس مفاهيم الجشع على حساب الوطن حيث أصبح الوعي بمتطلبات المواطنة شبه مفقود تماما، لذلك يتصرف الجميع وفق فرضية الفرص المطلقة للفرد وليس الفرص المشتركة مع المصالح الوطنية. الإشكالية التي تواجهنا دائما هي خوفنا من مواجهة المجتمع وترددنا في توجيهه والإشارة إلى أخطائه فالكثير من القرارات تتعثر لهذا السبب تقريبا، وهذا خطأ استراتيجي لكوننا لم نحلل هذا المجتمع بل لا يوجد جهة تدرس المجتمع بمنهج علمي حول الأبعاد المجتمعية فحتى أقسام علم الاجتماع أصبحت باهتة وتتناول موضوعات ليس لها علاقة بالمجتمع في اغلب الأحيان بل تحولت إلى منابر لا تؤمن بحقيقة علم الاجتماع وأهميته. ولعلنا ندرك أن غياب المعرفة بالمجتمع هي السبب الرئيس حول مواجهة المجتمع لنفسه والمسؤولين بتصرفات غريبة وغير مفهومة وخاصة في القضايا والقرارات التي تعتبر مسؤولية وطنية تمس المواطن نفسه وهذا يقودنا إلى تساؤل جزئي حول معرفة المجتمع من قبل السلطة التنفيذية: لماذا ينفعل المجتمع اليوم ضد القرارات التي ترتبط بقضية العمالة..؟ وسؤال آخر يقول لماذا لا يدرك المجتمع الخطورة السكانية والسياسية والاقتصادية التي من الممكن أن يتركها تراكم هذه الأعداد من العمالة سواء السائبة أو حتى النظامية التي تتزايد بمتوالية هندسية؟ في كل أنحاء العالم هناك قوانين تحدد حجم العمالة المفترض تواجدها قياسا بعدد سكان تلك الدولة وفي مجتمعنا تقول الجهات المسؤولة بأن يجب أن لا يزيد عدد المغتربين في المجتمع عن عشرين بالمائة، وأتمنى أن تقوم وزارة العمل وضمن مبادراتها الناجحة وبشراكة مجتمعية بإطلاق إستراتيجية لجعل هذا الرقم ينخفض إلى خمسة عشر بالمائة خلال السبع سنوات القادمة. إن أزمة العمالة السائبة وتراكم أعداد العمالة النظامية وتأثيرها المجتمعي يتطلب طرح السؤال مرة أخرى عن الأسباب التي تجعلنا مجتمعا بدون هيئة وطنية للتنمية المجتمعية والثقافية مهمتها حماية المجتمع وترسيخ قيمه الوطنية وتوجيه مساره التوعوي بما يخدم هذا الوطن ومكتسباته وأجياله القادمة. إن خسارة الوطن لحوالي مئة وثلاثين مليار خلال عام واحد بسبب تحويلات تلك العمالة لهو مؤشر يقول إن اقتصادنا لا يستثمر في أرضنا والسبب في ذلك وبدون حرج قلة الوعي المجتمعي وضعف وانهيار في أنظمة العمالة جعلها غير صارمة ومعرضة للكسر والتهاون. الحكومة يجب أن تقوم بتحديد مسؤوليات وزارة العمل وجعلها المسؤول الوحيد وظيفيا ومهنيا واجتماعيا عن كل فرد مغترب يأتي إلى هذا الوطن لأن معظم المشكلة اليوم تكمن في تعدد الجهات المسؤولة عن المغتربين واستقدامهم بجميع مستوياتهم. إن جدية المواطن في هذه القضية يجب أن تساوي جدية الجهات التنفيذية وفي ذات الوقت يجب أن يكون هناك فرصة للقيام بالعمل الأساسي وهو تصحيح أوضاع العاملين والتخلص من المخالفين، كما ان اشراك المجتمع وتوعيته اجتماعيا حول دوره المحتمل سيشكل منعطفا مهما في التخفيف من التعنت في إدراك أهداف الحملات الوطنية الخاصة بتصحيح أوضاع العمالة في المجتمع.