تعج الساحة الثقافية السعودية في الفترة الراهنة بالعديد من الفعاليات والحوارات والنقاشات، مفرزة ألوانا من الاختلافات والاستقطابات الفكرية من هنا وهناك، ويعد التصنيف الفكري من أبرز مظاهرها، والتصنيف الفكري بحد ذاته ليس هو المشكلة إذا قصد منه التعريف أو أعتبر محاولة لفهم منطلقات ورؤى الآخرين، وتأتي محاولتنا في التحقيق التالي. القرعاوي: العولمة الإعلامية ساهمت في تليين خطابات الممانعة والرافضة لتلك التوجهات الفكرية الوقوف على مرجعيات هذه التصنيفات الفكرية ونظرة المختصين حوله، وعن مدى ضرورتها الوقتية، وطبعا النهاية التي ستقودنا إليها هذه التصنيفات، حيث يقول الأستاذ سليمان العنزي - عضو هيئة التدريب بمعهد الإدارة العامة - ربما يكون المثال الأوروبي مناسباً لتوضيح سيادة الأفكار المختلفة في سياق تطور هذه القارة؛ فقد سيطر الفكر المسيحي على القارة ومجتمعاتها ومؤسساتها لمئات السنين نتيجة لانتشار الديانة المسيحية بمذهبها الكاثوليكي، حتى حدثت الثورة الدينية داخل الكنيسة المسيحية نفسها وأدت إلى ظهور الفكر البروتاستنتي - كمذهب جديد - منافس ومشارك للفكر الكاثوليكي المسيطر، حتى أدى هذا الحراك إلى أن تصبح أوروبا "علمانية" و "ليبرالية" وتترك التوجهات الدينية لرغبات أفرادها الشخصية. ولكن التوجهات التي سادت أوروبا لم تكن بمنأى عن التطورات السياسية والاجتماعية التي تأثرت بالفكر الماركسي الشيوعي الذي تبنته نصف دول أوروبا تقريباً، وقبلها الفكر القومي الذي أدى إلى حكم الأحزاب المتشددة وقادتها مثل هتلر وموسوليني. إن أوروبا كمثال تجسد طبيعة الاختلافات الفكرية وبالتالي تعدد الاتجاهات والميول الفكرية، وهو ما ينظر إليه بشكل طبيعي ومقبول، كما إن اختلاف التوجهات أو الاتجاهات الفكرية قديم قدم التاريخ، فالبشر يختلفون في ميولهم واتجاهاتهم حتى أصبح الاختلاف سنة كونية وطبيعة بشرية أصيلة، وبالتالي؛ يجب قبول الاختلاف كمبدأ وحق في الوقت نفسه. محمد القرعاوي أما القاص محمد القرعاوي فيرى إن التصنيفات المتعلقة بالإفراد ونعتهم بها إنما تنطلق من التوجهات الفكرية لكل فرد في زمن معين حيث قد تتبدل تلك النعوت إذا تغيرت تلك التوجهات، معللا شيوعها الآن للإعلام عندما يفصح إنسان ما عن رأيه يخالف به توجهات الآخرين والسائد. ويسترسل القرعاوي قائلا: إن الإقرار بالتعددية كأمر واقع يجعل من التصنيف اليوم أقل حدية من السابق، مستشهدا على هذا التحول بمرونة بعض من اشتهروا بدعاة الصحوة الذين اشتهروا بسل سيف التصنيف ضد خصومهم وتتجسد هذه المرونة في تليين خطاب الممانعة أو الرفض لتلك التوجهات مجيرا تغير قناعتهم إلى العولمة الإعلامية الداعية لحق الآخر في التعبير والانتماء والجهود الحكومية المتمثلة في نشاطات مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني. هل التصنيف ضرورة ملحة بوقتنا الحاضر حول ذلك يفصح الأستاذ سليمان العنزي عن رأيه قائلا: لا أعتقد بذلك رغم أن الخيار ليس لنا، فالمجتمع ومؤسساته تتطور بشكل لا يمكننا معه التمني بل المراقبة والتعايش ومحاولة التقويم، مؤكدا وجوب التفريق بين التصنيفات الفكرية كواقع إنساني وممارسة عالمية وبين التصنيفات الفكرية الحاصلة في بلادنا، معتبرا التفريق هنا لازما لأننا نتحدث عن حالة خاصة - أو شبه خاصة - حيث ينتهي التصنيف بالتخوين أو الاستبعاد من دائرة الجماعة أو الدين أو الوطن، وبالتالي لا تخدم التصنيفات المشهد الثقافي أو الحراك الاجتماعي نحو التقدم والتطور الفكري والاجتماعي في بلادنا التي بدأت إدراك خطورة هذا الملف، فالتصنيفات غير الواعية تسهم في شرذمة فئات المجتمع وتناحرها بدلاً من أن تؤدي التصنيفات إلى فهم الآخر ومنطلقاته الفكرية والقبول بحقه في الاختلاف، مؤكدا أهمية الحوار الوطني في هذا المجال لأننا نحتاج فعلاً إلى حوار وطني يوصلنا إلى وحدة وطنية حقيقية واحترام لكل مكونات مجتمعنا واتجاهاتها الفكرية. ويستشهد العنزي بإحدى توصيات مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني التي تؤكد "أهمية إشاعة ثقافة القبول بالتعددية الفكرية والمذهبية والقبلية، وأن القوانين والتشريعات هي التي تضبط ممارسة هذه التعددية، مع ضرورة فهم أهداف ومصادر التعددية الثقافية قبل الخوض في أسمائها كالتشدد والليبرالية والأمركة وغيرها" واصفا التوصية بأنها تعبر عن واقع حالنا وما نصبو إليه أسوة بالمجتمعات المتقدمة. أما القاص محمد القرعاوي فلا يرى في التصنيفات ضرورة ملحة خاصة في فترة الأزمات والفوضى حسب رأيه معتبرا إن الخاسر فيها الوطن والمواطن مضيفا أنها لا تزيد ترابط اللحمة الاجتماعية، مستدركا أهميتها في خلق التنوع المطلوب لدمج بعض القيم والمبادئ التي لا تتصادم مع الثوابت للمجتمع. النهاية المتوقعة للتصنيفات الفكرية في قراءته لها يتوقع محمد القرعاوي أن تنتهي تلك التصنيفات ضمن الأطر الفكرية للمجتمع من دون أن تتحول ضمن المشهد السياسي، ويضيف الأستاذ سليمان العنزي قائلا بالنسبة للنهاية المتوقعة للتصنيفات الفكرية في بلادنا، فالله بها عليم، لكن بإمكاننا قراءة التاريخ وتحليل الواقع في المجتمعات البشرية والكيانات السياسية حيث يمكننا العمل على تبني نماذج التسامح والقبول وقبل ذلك الوعي بالطبيعة البشرية النازعة للاختلاف واعتبارها حقاً للجميع، وهو ما ينفع الجميع، كما يمكننا العمل على تجنب الخوض في مزالق التصنيفات الإقصائية التي تؤدي إلى إقصاء الكل عن الكل! وكما قلنا سابقا لا يأتي ذلك بالتمني، بل من خلال سن القوانين التي تكفل الحريات والاختلافات وتضمن عدم تجاوز منهج فكري أو توجه اجتماعي معين حدود المناهج أو التوجهات الأخرى.