جيل المذياع والصحيفة الموجهة، عاش الحروب النفسية والدعائية بين الأنظمة العربية والتي خلقت فُرقة بين البيت والشارع والحي الواحد عندما انقسم المواطنون بين مؤيد لنظام وحزب وتيار، مقابل العداء والتخوين للطرف الآخر، وكانت عملية غسل الأدمغة استوردتها الأنظمة ذات الصوت العالي والتأثير المباشر من الحملات النازية والشيوعية التي بسطت هيمنتها على مجاميع خدعتها تلك الدعايات.. الرحلة الثانية مع الإعلام عابر القارات حين تحول الفضاء إلى وسيلة بث مباشر استحال معه الحجب والتشويش فكان بداية انفتاح على الآراء ومعرفة التوجهات المحلية والإقليمية والدولية لكنه أصبح مركز إثارة وتعبئة جديدة جعلت التهم تتوجه لتلك المحطات بأنها مسيّسة دولياً، وردت بأن حرية الرأي تبيح فتح النوافذ والملفات والمواقف مهما كانت الأسباب والنتائج، غير أن تلك الدول جزء من نظام عربي يعيش واقعاً سياسياً غير حرّ، وهذا ما فسر أن تلاحق الأزمات العربية بسبب الإعلام جزء من عقدة بدأت بأوائل الخمسينيات ولم تنتهِ حتى اليوم.. حالياً نحن في عالم مفتوح على كل الاتجاهات عندما أصبح التواصل الاجتماعي ونقل الحدث في جزء من الثانية، جاء التأثير مهيلاً، أي أن الأسرار لم تعد ذات قيمة أمام كشفها للرأي العام، وهنا صارت الإشاعة والخبر المكذوب، مساويين لغيرهما من الحقائق لكننا نعيش العالم المفتوح حتى ان هذه الوسائل كانت المحرض والفاعل في الثورات العربية الجديدة، وبالتالي هل تلك السلبيات التي لا نزال نعيشها سوف تؤسس لجيل عربي يختلف من حيث التحرر من المواريث السابقة، ليخرج من عباءة التوجيه والاستلاب اللذين قامت بهما السلطات وأحزابها وإعلامها وسطوة شرطتها وعيونها السرية، والتفريق بين الواقع اليومي وما تريد فرضه قوى الداخل والخارج في تصديق الكذبة، ليتم التحليل والقراءات الصحيحة لكل معلومة والتعامل معها بمنطق العقل لا العاطفة؟! من يشهد جيل ما بعد الإعلام التقليدي وسهولة التواصل الاجتماعي والحصول على المعلومة من مصادر متعددة، والرؤية المتسعة التي خرجت من الحيز الجغرافي الضيق إلى الفضاء المفتوح، يدرك أن جيلاً جديداً ولد بمواصفات مختلفة عن الأجيال السابقة عندما اختزل التقدم العلمي والتقني عشرات السنين بالشهور والأيام حتى أنك تذهل وأنت ترى الطفل والطفلة ينفتحان على آفاق الطفولة الكونية لتضاعف رؤيتهما للعالم وحفظهما أفكاراً ومصطلحات لم يكن أصحاب الثقافة التقليدية يحصلون عليها أو يتقنونها.. البعد السياسي في هذه القضية سيكون كبيراً؛ أي أن اتساع الحريات والمحاسبة والتعامل بندية، في دائرة الفكر الواحد عوامل ستكون مؤثراتها طاغية، وان القرار لا يتخذ دون مراعاة للرأي الوطني أو العام، ولعل أكثر من سيستفيد من هذه التقنيات وعوامل تأثيرها، المواطن العربي الذي عاش حياته مكررة ومحرومة من قبول رأيه كعامل في محيط هو شريك في صياغته وتطوره.. عالم اليوم يتسارع فيه الانتقال المباشر، ومن يفهم المسيرة، وكيف التعامل معها، هو من يرتكز على فكر ومنطق العصر الذي تجاوز كل الأزمنة وأدوارها وتأثيرها..