انتمي الى جيل عرف العالم بأذنيه عبر جهاز الراديو ، وينتمي أبنائي الى جيل لم يعد يسمع، إما بسبب تعدد وسائل وقنوات المعرفة،والتفاعل معها مهما بعدت المسافات ، وإما بسبب الضجيج داخل هذا الجيل أو حوله، بسبب تزاحم تلك القنوات الى حد التشويش أحيانا والابتسار في معظم الأحيان. على الناحية الأخرى أنا من جيل نشأ على أغنية “الوطن الأكبر” والحلم القومي،وهى أغنية لمن لا يعرفها تقول في بعض مقاطع منها :” وطني حبيبي .. الوطن الأكبر .. يوم ورا يوم أمجاده بتكبر .. وانتصاراته..!!! ماليه حياته.. وطني بيكبر وبيتحرر.. وطني .. وطني......” لكن هذا الجيل ذاته أفاق من الحلم على الكارثة مع حلول هزيمة عام 1967 ، حتى رحت أتهكم على الاغنية الأثيرة لدي قائلاً:” وإنكساراته.. ماليه حياته .. وطني بيصغر وبيتدمر.. وطني.. وطني......”. أما أبنائي فهم جيل الانسحاق الذي تغنى مع الانتفاضة بأغنية “الحلم العربي” وهى عمل فني عربي مشترك كان ينبغي أن يعيش وأن يؤثر في جيل الشباب العربي والأجيال المقبلة، لكن قنوات التلفزة العربية اعتادت عرض أوبريت الحلم العربي كلما حلت بالعرب كارثة، مصحوبا بمشاهد القتلى من أطفال العرب ونسائهم في فلسطين ولبنان والعراق والسودان....، حتى بدا أوبريت الحلم العربي “كابوساً “ بامتياز ،. بعض كلمات أوبريت الحلم العربي كانت تقول : “ أجيال ورا اجيال --- ح تعيش على حلمنا....واللي نقوله اليوم --- محسوب على عمرنا،”وكان أطفالي يعشقون الحلم العربي، لكن المشاهد الكابوسية المصاحبة لأوبريت الحلم، ثم تدني مستوى الأداء العربي المشترك على مدى سنوات “الحلم” وانحسار القدرة العربية على التأثير حتى في الشأن العربي، اصاب هؤلاء الأطفال بالإحباط ، وسحب الثقة من مشروع الحلم العربي، حتى وجدت ابني وكان طفلا في مستهل المرحلة الابتدائية ، يفعل ما فعله أبوه بعد النكسة ويتهكم على أغنية “الحلم العربي” مردداً:” افيال ورا أفيال .. ح تدوس على بطننا .. واللي يدوسه الفيل.. عوضه على ربنا”!! لست متأكداً مما اذا كان هو من صنع هذه الصيغة الساخرة للحلم “الكابوسي” أو أنه اقتبسها من زملائه في المدرسة ،وهذا هو الأرجح. لكنني متأكد أن ثمة صدمة تلقتها الأجيال العربية الشابة،وأننا -جيل الأباء- لم نعد بقادرين حتى على تخفيف آثار الصدمة على الأجيال العربية الشابة، التي باتت تتمتع بفعل تطور تقنيات الاتصال وسرعة تدفق المعلومات ، بواقعية جافة، لا مساحات فيها للحلم، ولا حتى لصناعة أو امتلاك بعض الأوهام الضرورية، التي قد تعين بعض المجتمعات على اجتياز اصعب المواقف وأحرج اللحظات في تاريخها، فالوهم يكون أحيانا مثل “البنج” المخدر الذي لا يمكن إجراء الجراحات الصعبة والكبيرة بدونه، فهو في أحيان كثيرة شرط من شروط نجاح الجراحة وتحقيق الشفاء. حتى هذا الوهم ما عاد ممكناً لجيل الأبناء والأحفاد أن يجدوه، لأن قدرتهم على المعرفة والتحليل باتت أعلى من جيل الأباء واكثر قسوة وواقعية. أشعر بكثير من الإشفاق على هذا الجيل الطالع، لكنني لا استطيع أن أخفي اعجابي بكثير مما عنده، فالأزمات التي يعيشونها قد ساهمت في تطوير مهارات لديهم تعينهم على مواجهتها بالحيلة أو بالتدريب أو بالتعلم.،وانفتاحهم - رغم كل شيء- على العالم الواسع من حولهم، قد جعلهم جزءاً لا يتجزأ من زمن العولمة، التي مازال البعض منا يسأل عما اذا كانت خطرا يتهددنا أم أملاً ينبغي أن نتشبث به؟! ، غير مدركين أنها قطار بالغ السرعة لا ينتظر أحداً ، وأن من لن يلحق به سيكون بالضرورة تحت عجلاته، فالعولمة ليست خياراً، والدخول فيها أو الهروب منها ليس قراراً. نحن- جيل الأباء- مظلومون مرتين، مرة لأننا عشنا سنوات الحلم وتجرعنا مرارات الهزيمة، ومرة أخرى لأن المسافة بيننا وبين جيل الابناء ربما تكون الأوسع على الإطلاق منذ بدء الخليقة، وكما قلت في بداية المقال نحن جيل عرف العالم بأذنيه، حين كان المذياع هو أحدث ما أنتجته تقنيات الاتصال، لكن مياهاً كثيرة جرت تحت جسور كثيرة عبرها جيلنا منذ الستينات الميلادية وحتى اليوم، كان أكثرها تأثيراً لحظة انتقال تقنيات الفضاء من ساحات السباق العلمي والعسكري بين القوتين العظميين( الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفييتي) لتصبح تلك التقنيات أدوات في متناول الجميع بما فيهم أطفالي وأطفالك الذين يتابعون مباريات كرة القدم في الدوري الانجليزي او الاسباني عبر الأقمار الاصطناعية، والذين شاهد الكبار منهم -على الهواء مباشرة- لحظة انهيار جدار برلين، ثم لحظة انهيار الاتحاد السوفييتي، ثم معارك تحرير الكويت، ثم معارك تورا بورا في أفغانستان فيما كانت الولاياتالمتحدة تلاحق قيادات تنظيم القاعدة المحتمية بالكهوف، ثم ليلة سقوط بغداد وانهيار تمثال للزعيم المهيب في ساحة الفردوس، ثم معارك حرب تموز بين اسرائيل وحزب الله، ثم أخيراً حرب غزة قبل أكثر من عام.. هذه الأجيال التي استطاعت ان تتابع بعيونها تلك الوقائع، ليس من السهل خداعها ، ولاتسويق الأوهام بين عناصرها، بعدما تحولت بفعل تقنيات الاتصال من عالم المتفرجين الى عالم الشركاء. هؤلاء الشركاء الجدد من الأجيال الطالعة، ينبغي أن يكونوا هم “ الحلم العربي” فهم أبناء زمانهم وهم الأكثر استيعابا لآليات هذا الزمان والأقدر على التفاعل معه، لكن ينبغي أن يتحرروا أولاً من خوفنا عليهم الذي يبلغ في بعض الأحيان حد الوصاية، وينبغي أن ينالوا ثقتنا فيهم ، وإلا فلن يكون بوسعهم أن يقودونا نحو المستقبل، تماما كما لن يكون بوسعنا حماية مكانتنا لديهم وقدرتنا على التأثير الايجابي فيهم .