لحظة يئست من وجوده، في المكتبات، قلت: أنصف القراء، كتاب «تاريخ القراءة»، فقد بحثت عنه طويلا، وقبل أيام لقيته، في طبعته الثانية، بعد سبع سنوات من طبعته الأولى، وفي يومين تمكنت من إتمام قراءته، وعرفت أنه كان يستأهل فعلا، إنصاف القراء له، ووثقت من استحقاقه، لجهد أكبر، ويأس أقل، للحصول عليه، فقد تمكن «آلبرتو مانغويل»، من صناعة كتاب، شديد الثراء، والإمتاع، تسيل منه معلومات كثيرة، بل كثيرة جدا، دون أن يفقد المؤلف أسلوبه الأدبي الرشيق، وهي مسألة في غاية الصعوبة فعلا، ولا يقدر عليها إلا أهل النبوغ، من أصحاب المواهب الحقيقية، والجادة، يقدم لك كتاب «تاريخ القراءة» بتكثيف محبب، ما يقوله العنوان بوضوح شديد، كاشفا عن عظمة العقل الإنساني، وعظمة العاطفة الإنسانية كذلك، ومقدرتهما على نحت الصخر فعلا، لا مجازا، فقد بدأت القراءة، والعين البشرية مسمرة على حجر، تفك رموزه، وتعيد اكتشافه، واكتشاف ذاتها، وبالرغم من أهمية كل هذا السرد التاريخي النافع، الذي تمكن «مانغويل» من لملمة أطرافه، بحكائية مبسطة، وبحس روائي قادر على لملمة المعلومات، وغزلها، وفتلها، ونقضها، كل مرة، ليتقدم بك خطوة إلى الأمام، فإن أجمل ما في الكتاب، قدرة الكاتب، ونجاحه، في جعلك كقارئ، جزءا مهما من الكتاب، إذ لا يمكنك، تقريبا، المرور على ثلاث صفحات متتالية منه، دون أن تسرح بذاكرتك، إلى أجوائك الخاصة جدا، كقارئ للكتب، تتذكر الأماكن، والأزمنة، ورائحة الورق، والأصحاب، لا تتذكرها في معزل عن كتاب «تاريخ القراءة»، بل كجزء منه، جزء مكمل، لا شك أن «مانغويل» أراده لك، وكأنه كتبه في سطور مخفية، إلا عنك، فالقراءة التي يقول تاريخها، في واحدة من مفاجآت الكتاب، إنها بدأت أول ما بدأت، بأصوات عالية، وفي مجموعات غالبا، سرعان ما اقتربت من عشاقها أكثر، فصارت سرا من أسرارهم، ولعلها صارت أكثر من هذا، صارت «القراءة مثل التنفس، إنها وظيفة حياتية أساسية»، ودون تقصد واضح من «مانغويل» الداهية، فإن هندسته الكتابية، تنجح دائما، في فتح صنبور الأسئلة، تتدفق في رأسك، وتنهمر، جاذبة إياك، إلى قلق لذيذ، فاتن، وشجاع، أيا كانت هويتك، أو جنسيتك، أو ديانتك، فأنت وبعد الصفحة المائة من الكتاب على أكثر تقدير، تكون قد تأكدت من انتمائك لقبيلة «القراء»، وسوف يعجبك ذلك، ويترك في نفسك ارتياحا عميقا، لأنها قبيلة، شديدة الأصالة، ومجيدة فعلا، بل و لا شبيه لها في صلة الرحم، والأدق «صلة الكلم»!، لكنه وصال خفي، ومضمر، كغيث أبي تمام، في البيتين الشهيرين له: (مطر يذوب الصحو منه وبعد... صحو يكاد من النضارة يمطر / غيثان فالأنواء غيث ظاهر ... لك وجهه والصحو غيث مضمر)، لكنك إن كنت عربيا تحديدا، فستتخالط لديك مشاعر متضاربة، من الفخر والأسى، وقليلا من الغضب ربما، لما يقدمه لك الكتاب، من إسهام عربي فاعل، في «تاريخ القراءة»، بقي من القول، ذكر اسم مترجم الكتاب للعربية (سامي شمعون)، والتأكيد على أهمية هذا الكتاب، خاصة لأولئك الذين سبق لهم أن وجدوا أنفسهم، في قراءة الكتب، و أفنوا أوقاتا كثيرة، من حياتهم، في هذا الطريق المدهش، المليء بالمفاجآت السارة. صندوق بريد: 375225 الرياض الرمز البريدي: 11335 [email protected]