ما نراه الآن من تأزمات واختناقات وكوارث سياسية واقتصادية وإدارية في الواقع المصري، ليس نتيجة آلية لعجز وفشل حكومة الإخوان فحسب، حتى وإن كان الإخوان - من خلال موقعهم في الحكم - يتحملون المسؤولية كاملة، وإنما هو نتيجة الرؤى المتخلفة التي سادت في المجتمع على مدى نصف قرن لم يتحقق التنوير بعدُ في دول العالم الثالث، وخاصة في البلدان العربية التي تطحن بقايا الوعي فيها رحى التطرف والتخلف ؛ لأن التنوير في هذا العالم العربي لا يزال مجرد أمل يُراود طلائع الوعي، مجرد حلم يعاني ويلات التشرد على أرصفة المستحيل. لا وجود لتنوير حقيقي، لا وجود إلا لملامح تنويرية تصنع قسماتها - بخجل - على تشوهات الواقع المستعصي، مؤكدة حجم الكارثة التي تكتنفها، ومعتذرة لِوَمَضَات النور عن طغيان طوفان الظلام . هذا هو واقعنا. وبناء عليه ؛ يفترض أن يكون حديثنا عن (ما قبل التنوير) وليس عن (ما بعد التنوير)، يفترض - في السياق الطبيعي - أن يكون التنوير هدفا، أن يكون زمنا جميلا نتطلع إليه، كما تطلع إليه الأوروبيون في القرن السابع عشر، فلم يتحقق لهم واقعا إلا في القرن الثامن عشر، وما بعده، وربما إلى اليوم لم يتحقق بالكامل. المفكرون الغربيون من ذوي الميول التفكيكية، لم يتحدثوا عن (ما بعد التنوير) إلا بوصفه تجاوزا متطورا للتنوير ؛ بمزيد من التنوير الإضافي، وليس ردة عنه، ولا كفراً به؛ إلا من حيث كون تفكيك الخطاب يوحي به (= رفض التنوير) ظاهرا. هذا ما هو مفترض في سياقنا، أي أن نتطلع إلى التنوير في المستقبل. ولكن، ولأن وعينا أصبح نهباً لارتدادات المتخلفين، تلك الارتدادات التي تمت على مستويات شعبية وحكومية، كما وأصبح نهباً لمسيرة مُجنزرات الانقلابات العسكرية التي أجهضت كل تلك الومضات الليبرالية التي خصّبت تربة الوعي منذ حملة نابليون وإلى بعد منتصف القرن العشرين بقليل ؛ أصبحنا نسترجع التنوير بوصفه زمنا جميلا مضى، أو حتى بوصفه حلماً لم يتحقق منه شيء، حلما راودنا حينا من الدهر فانطفأ قبل أن يرى النور، حلما ابتلعه عصر الظلمات الذي يبدو أنه راسخ في عوالمنا رسوخ الجبال. مَن يُصدّق أن مصر التي بدأت حركة الابتعاث قبل قرنين تقريبا ؛ فاتصلت بأرقى حضارة إنسانية عرفتها البشرية، مصر التي سبقت العالم العربي بسبعة عقود أو أكثر في مضمار التحديث، مصر التي أخرجت رفاعة الطهطاوي كعلم استنارة استثنائي ؛ يوم أن كان العالم العربي لا يدري ما الحضارة ولا الكتاب ولا الإيمان، يوم كان هذا العالم غارقا في لُجَج الفقر والجهل والقهر واليأس المُميت، مصر التي تفتحت أزهار اليقظة فيها عن أعلام أفذاذ قلّما يجود بهم الدهر، كالإمام محمد عبده، وقاسم أمين، وأحمد لطفي السيد، وسعد زغلول/ والرمز التنويري الكبير: طه حسين، والعقاد، ومحمد حسين هيكل (وهو غير الناصري التَّخلفي: محمد حسنين هيكل، منظّرالاستبداد والاستعباد)، وأحمد أمين، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، وزكريا إبراهيم، وعبدالرحمن بدوي، وفؤاد زكريا، وإمام عبدالفتاح إمام ..إلخ حاملي راية العقلانية بكافة تجلياتها، في الفكر والأدب والسياسة والاقتصاد. مَن يصدق أن مصر التي كانت تتقحّم عوالم العقلانية بخطى واثقة، والتي تفتحت أنواراً بكل هؤلاء الأعلام الذين استطاعوا إضاءة العقل العربي من المحيط إلى الخليج، أصبحت اليوم تعاني فوضى عارمة في العقل، بل فوضى عارمة تقع خارج نطاق العقل، بعد أن أصبح سدنة الخرافة وعرابو الحراك التجهيلي النقلي يقودونها إلى أزمنة الجهل والقهر والظلام . مَن يُصدّق أن مصر التي تدخل اليوم في نفق الاستبداد المظلم على يد الإخوان وحلفائهم من التقليديين، وتحاول فيها قوى الظلام تقويض كل شيء، لا تقويض الديمقراطية الهشة فحسب، وإنما تقويض البنية المؤسساتية للدولة المدنية أيضا، مَن يصدق أن مصر التي وصلت إلى هذه الحال، كانت قبل أكثر من قرن تطالب بالحكم الدستوري التمثيلي . ففي عام 1902م صرّح الزعيم الوطني الكبير : مصطفى كامل - قائلا- : " إن بلادنا تحتاج جمعية نيابية تتمتع بالسلطة التشريعية العليا ولايمكن إصدار أي قانون ضدها.. إن بقاء السلطة الفردية في يد مصري أو في يد أجنبي هو شيء ضار للغاية وقاتل للبلاد ". وفي رسالة له إلى رئيس وزراء إنجلترا يحتج فيها على الاحتلال يقول : " إننا نطالب بحكومة دستورية حرة، إن الإرادة الوحيدة التي نريد الخضوع لها هي إرادة الشعب ". (نقلا عن د . طاهر عبدالحكيم، في كتابه الذي هو رسالته للدكتوراه " الشخصية الوطنية المصرية، قراءة جديدة لتاريخ مصر "، ص208) . وقد تم ذلك بصور نسبية، إذ تمتعت مصر ما بين عامي 1919م و1952م بمسيرة ديمقراطية / ليبرالية، لا تزال نقطة إضاءة في التاريخ العربي الحديث . إذن، كانت مصر قبل أكثر من قرن تطرح أسئلة الحرية والديمقراطية على لسان أبرز زعمائها الوطنيين، وكانت الجامعة التي أنشئت عام 1908م تزهو بوجود كبار المستشرقين. أي أن حركة الفكر وحركة الواقع، كانتا - آنذاك - تتوجهان صوب أزمنة الحداثة، بآمال وطموحات لا يحدها إلا الانفتاح اللانهائي للعقل على كل ما هو ممكن في مضمار تعزيز كرامة الإنسان. ربما لم يكن من قبيل المصادفة أن يكون عام 1973م هو عام وفاة الرمز التنويري : طه حسين، وهو نفسه العام الذي مكّن فيه السادات لقوى الخرافة كي تستبيح ما تبقى من العقل المصري . في هذه السنة الفاصلة، مات طه حسين بعد أكثر من خمسين عاما من النضال الفدائي في سبيل تعزيز قيم التنوير، وفي الوقت نفسه، بدأت تتكون وتتضخم جماعات الإسلام السياسي، حتى تنامت وأخذت تتناسل شظايا دمار في كل الاتجاهات، شظايا تطرف مُتخلف مُفعم بالإقصاء والتكفير، ثم بالقتل والتفجير. منذ عام 1973م سيطر الخرافيون على العقل المصري، هيمنوا على الوعي الجماهيري ؛ حتى تراجعت قيم العلم وتوارى خطاب العقل . لقد تراجع التعليم إلى أدنى دركاته، وتحللت قيم المجتمع المدني إلى درجة الاندثار، وأصبحت المؤسسات التي كانت تجسيدا متعينا للمدنية المتعقلنة، محاضن للفساد المنظم الذي اخترقها حتى النخاع، وساد خطاب يدّعي أنه البديل (الإلهي)؛ بينما هو خطاب استسلامي قدري مهيض، يهرب من تحديات الحياة الدنيا إلى غيبيات الآخرة. وإذا تقدم قليلا إلى الأمام ؛ فإنما لينتظر مهدي الأرض أو مهدي السماء، مُتمرغاً في وحل الواقع المرير الذي يُعيد تدوير نفاياته من خلال هؤلاء الأشقياء البؤساء . من يقرأ كتاب أستاذ الأنثروبولوجيا الثقافية في جامعة أكسفورد : وولتر أرمبرست، الذي صدر بعنوان (الثقافة الجماهيرية والحداثة في مصر)، يلاحظ حجم ونوعية التغيرات التي طرأت على العقل المصري، والتي أثرت في صياغة منظومة القيم فيما بعد سنة 1973م، وذلك من خلال تحليل المؤلف لطبيعة تلقي كثير من الأعمال الفنية، والدرامية خصوصا، تلك التي لاقت رواجاً جماهيرياً واسعا. لقد استنطق المؤلف الوعي من خلال الجماهير ذاتها، حيث لا يكون العمل الفني هو - فقط - المنتج للموقف الجماهيري الشعبوي المتغير، وإنما - أيضا - تقف الجماهير - بخياراتها في التلقي - كاشفة حقيقة التغير السلبي الذي حدث في لمجتمع، إذ تشي هذه الخيارات أن الوعي انحدر إلى مستويات سوقية دنيا، تجعل الأولوية لكل ما هو تافه ورديء وفوضوي وعبثي، بل وإجرامي؛ ما دام يُحقق المردود المادي المباشر والآني، المردود الربحي المتجرد من كل الشروط المجتمعية المرتبطة بالضمير، أي - في نهاية الأمر - بالعقل الإنساني. منذ أربعين عاما؛ والعقل المصري الذي شهد أولى المحاولات الجادة للاستنارة، يعيش مرحلة الانحدار إلى فوضى العوالم الخرافية. صحيح أن الحركات المتأسلمة كانت تنهض بالوعي، ولكن إلى أسفل سافلين. منذ ذلك التاريخ بدأت الرحلة، رحلة التردي المتمثلة في الارتداد الحضاري، ولم تكن لتنتهي - بأي حال من الأحوال - بثورة جماهيرية مدنية مؤمنة بقيم التقدم وبمبادئ حقوق الإنسان . كانت المرحلة الناصرية التي امتدت لعقدين من الزمن - تقريبا -، مرحلة تجريف قاس وغير إنساني للأرضية التي شهدت أول فجر صادق لربيع العقل . بعد أن تمت عملية التجريف، أصبحت التربة جاهزة (بسبب ما تراكم فيها من هزائم وانكسارات وقهر واضطهاد وتفقير متعمد..إلخ) ؛ لتطرح فيها قوى التخلف والتطرف بذورها المسمومة، ولتنمو - بعد ذلك - وتزدهر، ويصبح هذا الفضاء العربي مجرد حقول ملغومة بهؤلاء المعادين لكل قيم الحضارة المعاصرة، المنغلقين على تصوراتهم المتخلفة عن العالم وعن الإنسان، والرافضين لتراث العقل لحساب تراث النقل، حتى وصل الأمر إلى ما نراه اليوم من صراع، وتشرذم، ونفي متبادل، وعجز عن الالتزام ببدهيات العلم وضرورات العقل. على مدى أربعين عاما ؛ كان الوعي العام / الجماهيري منتكساً أشد ما يكون الانتكاس مأساوية، كان هذا الوعي العام / الجماهيري يسير في هذا الاتجاه الانحطاطي. ولهذا كان من المستحيل أن ينتهي هذا بثورة حقيقية، أي بثورة إنسانية تتغيا الإنسان ؛ حتى وإن أوحت تخبطات الجهل، وموجات الغضب، وصرخات الإحباط التائه، وهتافات الاحتجاج اليائس، بأوهام ثورة تسر الناظرين بشعاراتها لا بحقائقها. الثورة قبل أن تكون تغييرا في الواقع، هي تغيير في العقل، تغيير في طبيعة التفكير، ومن ثم في أنظمة العلاقات، علاقة الإنسان بالعالم، وعلاقته بذاته، وعلاقته بالآخرين . وهذا ما لم، ولن يحدث ؛ إذ كل ما حدث ويحدث في هذا العالم العربي لا يتعدى كونه احتجاجا غاضبا، سرعان ما تطمره ضرورات الحياة أو يحكمه المدى الطبيعي لموجة الغضب، خاصة وأن الإنسان العربي لا يزال يعيش حالة بدائية / طفولية، على مستوى العقل وعلى مستوى الوجدان ؛ إذ هو يغضب لأتفه الأشياء، كما يرضى لمثل ذلك، بل هو يخلط غضبه برضاه ورضاه بغضبه، بسبب هنا، وبلا سبب هناك، في حالة من التوهان العقلي والاضطراب العاطفي . لقد رفضتُ منذ الأيام الأولى لموجة الاحتجاجات في مصر وتونس تسمية ما يجري ب(ثورة) ؛ رغم وصف كثير من المفكرين السياسيين لها بذلك . إن للثورة شروطها التي لم تتحقق في هذه الاحتجاجات الغاضبة أو الانتفاضات الحقوقية . ولهذا أكدت - بوضوح - هذا المعنى في كل المقالات التي كتبتها بالتزامن مع مجريات الأحداث آنذاك. فرغم أنني كنت معها - من حيث المبدأ، أي كانتفاضات حقوقية - إلا أنني لم أكن متفائلا بها ؛ لأنني لم أرَ أن ثمة تغييرا حقيقيا في الوعي، تغييرا عقليا يقف وراء هذا الاحتجاج الغاضب. منذ ما قبل 25يناير 2011م بثلاثة أشهر، وإلى اليوم، كانت إقامتي شبه الدائمة بمصر. عاينت الأحداث (= الاحتجاجات التي انتهت بخلع الرئيس)، عاينتها وقائعَ أعيشها لحظة بلحظة، رأيت كيف تحولت الشوارع إلى موجة غضب دون سابق إنذار. في يوم 28يناير، رأيت من نافذة البيت في الدور الثاني عشر مطاردة البوليس للغاضبين، ثم مطاردة الغاضبين للبوليس، شممت رائحة القنابل المسيلة للدموع، وأغلقت النافذة بعد تصاعد الدخان، شهدت اللحظات التي تلاشى فيها النظام الأمني كأن لم يكن، وأدركت - بكل حواسي - ماذا يعني الانفلات الأمني، وأن يضطر كل فرد وكل عائلة وكل جماعة إلى حماية أنفسهم بأنفسهم ؛ بعدما أصبحت مراكز الشرطة خالية تماما، بل وبعدما أصبح بعضها طعمة لنيران الغاضبين. شهدت بعد ذلك نزول الجيش إلى الشوارع لتوفير الحد الأدنى من الأمن، وما تلا ذلك من فرض حظر التجوال . وكان من اللافت للانتباه أن هذا الحظر ليس محل احترام . كانت الفوضى أقوى من أي شيء، فوضى العقل الراسخة لم تترك مجالا لشيء من نظام حتى في لحظات الخوف ؛ فلا أحد يلتزم بأي نظام، لا قبل 25/1 ولا بعده، ولن يحدث أي التزام في هذا المدى الزمني المنظور. لاشيء تغير في مصر؛ بحيث يكسر موجة الانحدار إلى القاع، تلك الموجة التي بدأت بغياب - أو تغييب - خطاب التنوير منذ نصف قرن تقريبا. القيم الحاكمة للمجتمع كما تراها في الواقع (وهي المتعينات الكاشفة عن نظام العقل المضمر) هي ذاتها، فوضى عارمة في كل شيء، وأنانية طاغية تلتهم الأخضر واليابس، والاستثناءات القليلة تؤكد الحكم ولا تنفيه ؛ إذ التعويل ليس على وعي الاستثناءات الفردية، بل على الحراك الجماهيري الذي يكشف عن طبيعة الوعي العام . لهذا، وبمجرد سقوط النظام، وبينما كان المتوقع (عند من يرى ظواهر الحدث بوصفه انتفاضة تحررية ضد الاستبداد ومصادرة الإنسان) أن تكون الخيارات التقدمية ذات المرجعية التنويرية هي المتوقع لها أن تستولي على وعي الجماهير، رأينا العكس تماما، رأينا من يرفع صور رمز الاستبداد والطغيان في تاريخ مصر (= عبد الناصر مثلا)، ورأينا الغالبية تتماهى مع الرؤية الإخوانية المتخلفة التي تنتمي إلى عصور الظلام في تاريخ الإسلام. الجماهير أسقطت مبارك ؛ دون أن تحدد - بوعي - خياراتها لمرحلة ما بعد مبارك . الجماهير تصورت مبارك رمزا للطغيان الذي يضطهدها ؛ فأسقطته في لحظة غضب، ولكنها لم تع أنها لا تمتلك وعيا تقدميا بديلا. الجماهير لم تدرك أنها سترجع - في حركة نكوص مأسوية - إلى ما قبل مبارك، إلى ما هو أشد تخلفا وطغيانا من مبارك، أي إلى المشروع الناصري أو إلى المشروع الإخواني، وكلاهما مشروع تخلف يمتهن الاستبداد عقيدة، إنهما وجهان لعملة واحدة ؛ رغم تنافرهما الظاهر الذي يوحي بالتضاد (ولا ننسى أن عبدالناصر كان منتمياً إلى الإخوان، وتحديدا، إلى النظام الخاص / السري، ولهذا دلالته التي لا تخفى). ما نراه الآن من تأزمات واختناقات وكوارث سياسية واقتصادية وإدارية في الواقع المصري، ليس نتيجة آلية لعجز وفشل حكومة الإخوان فحسب، حتى وإن كان الإخوان - من خلال موقعهم في الحكم - يتحملون المسؤولية كاملة، وإنما هو نتيجة الرؤى المتخلفة التي سادت في المجتمع على مدى نصف قرن، والتي جعلت السياق العام للوعي الجماهيري محكوما برؤى الإخوان حتى ولو ولم يحكم الإخوان، بل إن الوعي العام محكوم - في كثير من سياقاته - بما هو أسوأ من رؤى الإخوان..