مجتمع المملكة لا يزال متمسكاً بهوية نسيجه الاجتماعي والثقافي، وصورته المحافظة المتأصلة في جذوره، ومع ذلك لم يبق معزولاً عن الآخر، أو متردداً في الاندماج معه، بل يتجه اليوم نحو التغيير للأفضل، والانفتاح على حضارات وثقافات الشعوب الأخرى -مع تأصيل القيم والأخلاقيات التي يؤمن بها-، ويتحاور حول القضايا الأكثر سخونة في وطنه، من خلال حوار وطني وفكري أسس حراكاً غير مسبوق؛ بحثاً عن حلول أفضل لواقعه المتنامي انفتاحاً ونمواً. وتُعد قضية إتاحة "السينما" في المجتمع من أكثر القضايا التي تم تناولها بالنقاش والمعارضة والاتفاق، فهل مازلنا نحتاج إلى أن نمانع وجودها؟ وما الذي يمكن أن تحدثه من إضافة جديدة على مجتمع أصبح يجد ما يرغب في مشاهدته عبر وسائل الاتصال الحديثة التي أصبحت تتيح له المشاهدة والتحدث مع أشخاص يبعدون عنه بمئات المسافات؟ ماذا يمكن أن تضيفه السينما؟ وما وجه المخالفة لوجودها؟ وكيف من الممكن أن توجد السينما التي يشتاق إليها كل فرد؟ هل نحن جاهزون حقاً لأن يكون لدينا دور سينما؟ وإذا ما وجدت ما الذي ستحدثه من تغير إيجابي لمجتمع مازال يشاهد في الخفاء، ومازال تؤثر فيه الصورة أكثر من واقعة الحدث؟ ويسافر كثير من أفراد المجتمع وأسرهم إلى دول مجاورة على أمل مشاهدة أحد الأفلام الجديدة، وهنا لابد من إعادة النظر في تقييم الأمور وجعلها في مسارها الصحيح، عبر إنشاء "دور سينمائية" في مدن المملكة، ولا مانع أن تكون داخل "المولات التجارية"، على أن يخرج المواطن وأسرته إلى التسوق ثم البحث عن الترفيه، إلاّ أن ذلك -وإن تم- لابد أن يخضع إلى عدة تنظيمات، تمنع حدوث السلبيات التي من الممكن أن تحدث بسبب أشخاص لا يُدركون حجم تصرفاتهم وأفعالهم، ولا بأس من سن "عقوبات غليظة" على كل من يحاول أن يخترق النظام، أو يسيء إلى الآخرين. هل يُقبل أن يُغادر شباب وأسر لدول مجاورة بحثاً عن مشاهدة «فيلم جديد»؟ ولم تعد "دور السينما" مشكلة كبيرة، خاصةً إذا ما كان بالإمكان تنظيمها بطريقة تُلغي المخاوف، فالكثير من الدول تراقب الأفلام المعروضة، وتزيل بعض المشاهد غير اللائقة، والشركات المنتجة لا تعارض عليها إذا لم تشوه الفيلم، إلاّ أننا نحتاج في النهاية إلى القانون الرادع الذي يعمل على منع المخالفات. سينما أحواش! وقال "د. عبد الرزاق العصماني" -أستاذ الإعلام الدولي سابقاً بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة-: إن "السينما" كانت موجودة قديماً في جدة، وكانت تسمى بسينما "الأحواش"، لكنها كانت تجربة بسيطة وليس بالمفهوم الكبير، مضيفاً أن وجود "السينما" تأخر لدينا لأسباب كثيرة من أهمها تركيبة المجتمع وطبيعته، كما أن القناعات الدينية الراسخة لم تسمح بذلك، كما أن الإعلام في السابق كان متعثراً في بدايته، فالإذاعة السعودية في بداياتها واجهت الكثير من الاعتراضات، ولم يسمح بها إلاّ بعد فترة، بعد أن اعتبرت وسيلة للخير أو الشر، وللبناء أو الهدم، ويعود ذلك إلى الإنسان ومدى قدرته على تحريك تلك الوسيلة إلى توجهات معينة، مشيراً إلى تجربة ظهور التلفزيون في البدايات وما نجم عن ذلك من مخالفات أدت إلى عرقلة خروجه، وحتى بعد أن ظهر خرج بصورة ليس الصورة المرجوة، بل وبقي يعاني منها طويلاً، ذاكراً أنه كان على التلفزيون أن يراعي الطبيعة المجتمعية من ناحية والأمور الدينية من ناحية أخرى، إضافةً إلى ضرورة أخذه بسبل التحديث والتطوير. وأضاف أن المجتمع لم يكن مستعداً وكذلك الجهات المعنية لم تكن مستعدة لأن تعطي التراخيص لإنشاء دور السينما في تلك الفترة، سواء كانت في فترة الخمسينيات أو الستينيات، حتى أصبح الاهتمام منصبا على التلفزيون فيما بعد. لا يوجد سبب وأوضح "د. العصماني" أن "السينما" لدى المجتمعات الأخرى لم تكن مجرد الخروج من المنزل والذهاب لمشاهدة فيلم فقط، بل إنها تُعد جزءاً من التواصل الاجتماعي في المجتمع غير التقليدي، حيث كان ينظر إليها بتلك النظرة، مضيفاً أن المرء حينما يذهب إلى دور "السينما" يعتبر نفسه كما لو كان يعيش أجواء المسرح، لكن حينما تطورت الأمور وظهر التلفزيون الذي أخذ يعرض الكثير من الأفلام لم يعد للسينما ذلك الحضور والحماس، مبيناً أن وسائل الاتصال الحديثة أضعفت الدور الذي تقوم به السينما وذلك حتى على مستوى الدول الغربية، فألحقت بها الضرر، مؤكداً أن "الأفلام السينمائية" أصبحت تُشاهد عبر المواقع الإلكترونية في تلك الدول، ذاكراً أنه ليس هناك أي سبب لعدم وجود "السينما" بعد التحول التقني الكبير والقدرة على الوصول إلى مشاهدة تلك الأفلام عبر قنوات الاتصال، لافتاً إلى أنها لم تعد تشكل خطورة، ففي البدايات كان هناك تخوف من الطرح الذي تتناوله، أما الآن فأصبح الكثير من الموضوعات التي تطرح بين عامة الناس تمثل خطراً أكبر! وأضاف أن الرؤية فيما يتعلق بالناحية الاستثمارية غير واضح مدى جدواها، فربما الحكومة مازالت مترددة في قبول مشروعات استثمارية في مجال السينما، لكن من الناحية العملية ليس هناك سبب للمنع فكل شيء أصبح الآن متاحاً، والإعلام أصبح من السهل الوصول إليه في كل مكان وفي أي وقت، موضحاً أن التحفظ ربما يأتي من الخوف من الاختلاط الذي يحدث بين الجنسين، وربما ذلك احد أهم الأسباب، وما سوى ذلك فليس هناك أسباب للمنع. وجهة نظر أخرى! وأكد "د. عبدالله الصبيح" -أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- أن تجربة الدول العربية مع "السينما" ليست جيدة، مضيفاً أنها تعرض أشياء مخالفة لقيم وأعراف المجتمع، مبيناً أن المجتمع لدينا يمانع لأنه يخشى أن يفقد هويته أو قيمه أو الأخلاقيات التي تربى عليها، خاصةً مع عدم وجود النماذج في الأفلام التي من الممكن اعتبارها مثلاً يُحتذى به أو نموذجا يقتدى به، مشيراً إلى أنه حتى مع إتاحة مشاهدة تلك الأفلام التي أصبح من السهل الوصول إليها عبر الإنترنت أو مواقع التواصل الاجتماعي أو عبر قنوات التلفاز، فليس هناك فائدة كبيرة من عرضها في "دور سينما"، خاصةً مع اتصاف تلك الأفلام بإتاحة ما هو غير مقبول من السلوكيات والمشاهد، ذاكراً أن وجود "السينما" لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعكس واجهة ثقافية، أو جانب تحضر في مجتمعنا، فلا يؤسس التحول والتحضر على إيجاد دور السينما. امنحوا التراخيص وطبقوا النظام وراقبوا المحتوى.. المهم «رفهوا عنّا»! وأضاف أن المجتمع لديه رغبة قوية في أن يحافظ على قيمه وأخلاقياته وهويته بعدم إقرار دور السينما، وذلك حقه، فالموضوع ليس له علاقة بتهيئة المجتمع كما يعتقد البعض، موضحاً أن من يدعو إلى وجود "السينما" مع وجود الضوابط فإن الحقيقة تخالف ذلك، حيث أن الصناعة السينمائية لا تشجع على وجود الضوابط. مراقبة الأفلام وقال "د. سعود صالح كاتب" -مختص في مهارات الاتصال وتكنولوجيا الإعلام بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة-: إن الممانعة تأتي من بعض فئات المجتمع الذين يخشون أي تغير يؤثر في المجتمع، مضيفاً أن هذه الفئة هي ذاتها التي دائماً ترفض التغير ليس فقط فيما يتعلق بالسينما، بل على عمل المرأة والتعليم وغيرها من الأمور التي ترفض، مشيراً إلى أن الأفلام التي تعرض في السينما موجودة ومتاحة، فلم تعد الدور مشكلة كبيرة، خاصةً إذا ما كان بالإمكان تنظيمها بطريقة تُلغي المخاوف المتوقعة، مؤكداً أن الكثير من الدول التي لديها دور سينما تراقب الأفلام المعروضة، وتزيل بعض المشاهد غير اللائقة، والشركات المنتجة لا تعارض عليها إذا لم تشوه الفيلم، ذاكراً أن المقاومة شديدة جدا لوجود السينما لدينا، مبيناً أنه في جميع دول العالم الأفلام متاح مشاهدتها في المنزل إلاّ أن الذهاب إلى السينما أمر مختلف تماماً، موضحاً أن مشاهدة فيلم على المسرح تجربة مختلفة عن مشاهدته في التلفزيون أو في المنزل، وإلاّ لما اخترع الغرب دور السينما. وأكد أننا نحتاج إلى القانون الرادع الذي يعمل على منع المخالفات التي من الممكن أن تحدث في دور السينما، فإذا وجد القانون الصارم فإن المخالفات هنا لا يمكن أن تحدث، ففي الدول المتقدمة لا يمكن لشاب أن يتجرأ لمعاكسة الفتاة؛ لأن هناك قانونا صارما، بينما قد يحدث التحرش لدينا حتى في الأماكن العامة، مبيناً أنه لو لم تكن لإيجاد السينما إيجابيات لم يصرف عليها مئات المليارات في الدول الأخرى، فالناس الذين يذهبون إلى الدور يجدون فائدة كبيرة أهمها الترفيه الذي هو حق لكل إنسان، وهو أمر مطلوب ومن حق أي شخص أن يحصل عليه. أجواء «المولات» تُحتم إيجاد دور سينما للترفيه أسر وشبان يسافرون إلى دول مجاورة رغبة في مشاهدة فيلم سينمائي