تصلنا رسائل الربيع في شتاء يخفي مخالبه. سينظر كل منا إلى ساعته وتقويمه السنوي: تأخر هذا الربيع الذي ما عدنا نفهمه جيدا، والآن جاءت رسائله في غير موعدها، رسائله التي تفوح برائحة الحقول والسكك الضيقة. سيختلف اثنان على موعد دخول المربعانية، ولن يغير ذلك من الأمر شيئا: رسائل الربيع تسقط على الطرقات كالياسمين فيخلع الناس ما عليهم من خريف وشتاء ليقرأوا ملامح الورد في الحروف، سيبحث قارئ جيد للتاريخ عن قلم ليكتب في دفتره الصغير عن السنة التي تعلم فيها الربيع الكتابة ورد على بريد المعجبين، ستبحث عائلة صغيرة عن حديقة تطل على بحر أو بحيرة ليتمرن طفلها الوحيد على ركوب دراجته دون عجلات رديفة. سيجد شاعر قريحته أكثر عافية في هذا الربيع المبكر. سيجد روائي عقدته الفنية التي كان يبحث عنها تحت ركام أوراق الخريف في طرقات السرد كمن يبحث عن مفتاح بيته داخل البيت. سيجد رسام لونه المفضل لحظة ما يطأ الربيع على طرف عباءة الشتاء فينكشف الخريف المعتق بلون جديد. سيتغير لون البادية أكثر من مرة: فمرة سيتفتح لونه كحقل قمح تجدله ريح الشمال، ومرة سيصبح داكنا كصخرة أمطرتها سحابة صيف شردت من قطيع الغيم الأسمر. سيميل نخيل وادي حنيفة إلى الغرب أكثر كأن الغروب يشد سعفه قليلا ليمشطه بأشعة الشمس. سيكون المناخ السياسي أكثر لزوجة وأبطأ حركة، لا الاتقافيات البينية تقدم حلولا للتحرك إلى الأمام أو إلى الخلف، ولا معاهدات السلام تفكك عقد التوتر بين أضلاع القضية. سيتضخم الاقتصاد أكثر، رغم كل العقوبات الاقتصادية التي تملأ العالم بأمل شفيف. وربما تمدد العشب ليخفي خطوط الجغرافيا الوهمية على ورق الخريطة، ليأكلها قطيع من الماعز يقوده رعاة حفاة صقلوا ناياتهم بعبير الربى. سيأخذ ساعي البريد إجازة مفاجئة ليملأ كيسه من بريد الربيع المستعجل ويأخذ زاوية نائية بين شجرتين عظيمتين ليقرأ رسائله رسالة رسالة: .. الورد ينبت خجلا على خد رابية رأت نفسها في مرآة غيم صافية .. .. خطي ربيعي لكن على لغتي أوراق الخريف .. .. الشتاء نسيج من الهجر والجفوة تمزقه ابتسامة دفء حانية .. .. أعد قهوتي برائحة البندق في انتظار أن ينتهي الشتاء من أعماله اليدوية .. .. الخريف ما تبقى من الحزن والشوق في جوف الآنية .. .. لكل الذين تحلقوا على النار هذا الشتاء، صورتي هذه السنة ملونة بالأقلام الخشبية .. .. الربيع سماء مفرقة وقطعة حلوى وماء يجري في عروق القافية ..