ليست السنوات سوى فصول، والفصول أيام من الذكريات والنسيان والحب والكراهية.. كلما تراكمت الفصول كبر الإنسان وكبرت آلامه وأحلامه كما يكبر البرعم ليصير وردة، قالت في نفسها، وهي تنظر إلى المرآة لا لترى وجهها، شعرها، عمرها، بل لتسأل ملامحها عن السبب! حولها الوقت ينمو ، أحياناً، ياسميناً، وأحياناً ناراً.. لم تتوقع أن يمر عام آخر دون أن ترى ابنتها! ولم تتوقع أن تحرق حبها مع نهاية هذه السنة! ستبدأ من عزلتها، أو من جهة أخرى للحياة.. خطر لها أن تنام بلا أحلام هذه المرة.. وخطر للشتاء أن يزور المكان ممتلئاً بالمطر والحب.. الرذاذ الهاطل على النافذة يوقظها، والطيور الباحثة عن مأوى تنتشر.. أصوات السيارات والناس تطغى على أصواتها الداخلية.. تنهض، تصنع القهوة، ترشف معها ذكرياتها: كم كان يحبني! لماذا اختفى؟ ودت لو تقول له: ظلك ما زال في القهوة، مازال عالقاً في ثياب الغيم.. لماذا فضلتَ القبر؟ كأنها لبست ثيابها على عجل، وأسرعت إلى عملها.. زميلها الهائم في الشرود، اقترب منها هامساً: نجوى، أحبك.. دون تفكير ردت: ناجي، أكرهك.. الله كم كراهيتك جميلة.. ومع ذلك أنتظر موافقتك منذ سنين.. تبتسم، وتعيد عينيها إلى شاشة الكمبيوتر، تفتح نص الرسائل، فتجد رسالة مزدحمة بالعواطف والحب الذي لا يوصف، فتكتب بعواطف حارة، كلمات حارة، وتحلق بعيداً مع المطر الجديد. منذ أيام وهذا البريد الالكتروني يرسل لها إيميلات حب وإعجاب.. فتبادله الوجدان المشتعل.. تذكر أنها منذ أكثر من سنة، دفنت زوجها، ومنذ أكثر من سنة وبريدها الإلكتروني يزدحم بالغرام! ماذا تفعل؟ هل تعيد قلبها إلى الربيع، أمْ تتركه في الشتاء؟ وذات يوم تهطل فيه الأمطار، تواعدا.. لبست معطفاً جلدياً أحمر، واتجهت إلى المطعم المحدد. رأته ينتظرها.. نظاراته السوداء العريضة تغطي قسماً كبيراً من وجهه، معطفه الجلدي الأسود يلمع.. وقميصه الأبيض يتلألأ.. هي مدت يدها لتصافحه، وهو أزاح النظارة عن عينيه، ونهض مرتبكاً.. فجأة، دوتْ صيحتها في المكان: أنت؟! منذ أكثر من سنة وأنت ميت! ارتبك الرجل، نسي نظارته على الطاولة، وخرج مصعوقاً من الدهشة.. بينما هي جلست منهارة على أقرب كرسي.. لم يمت الرجل، لكنه تزوج من امرأة ثانية، ومازال يطارد النساء عبر الشبكة الإلكترونية!