كل ما حصله الإنسان من تربية جسدية وعقلية ينعكس على سلوكه، فمدى الحكم على الشخصية الإنسانية، قوية أم ضعيفة، مندفعة أو رزينة، شجاعة أم هروبية وانسحابية، متوازنة أم مضطربة... الخ، ينبع من خلال تقدير سلوكه، ومدى الحكم على هوية الإنسان يرجع كذلك إلى السلوك. وبرز الاهتمام بالسلوك الإنساني في عهدنا الحديث وبدأت ظاهرة استخدام مختلف العلوم للتنبؤ بهذا السلوك ومحاولة التحكم فيه وضبطه بعد تحديد ردود أفعال الأفراد، وأصبحت هناك مؤسسات علمية كاملة تدرس وتبحث وتقترح. ودخل السلوك البشري إلى المختبر. وتطور الأمر إلى محاولة استخدام تحليل السلوك في تحديد شخصية الشعوب، مثلما فعل الباحث الفرنسي أندريه سيغفريد في كتابه «سيكولوجية بعض الشعوب» فأطلق أحكاماً على السمة الغالبة لبعض الشعوب، وهي (النظام) لدى الألمان، و (العناد) لدى الإنكليز، و (البراعة) لدى الفرنسيين، و (التصوف) لدى الروس، و (الديناميكية) لدى الأميركيين. ويرتبط سلوك الإنسان بشبكة كثيفة معقدة من العناصر والعوامل التي تسهم في تشكيل التصرفات. وحكمنا على أن سلوكاً ما «سياسي» من عدمه، ليس حكماً مطلقاً، إنما هو حكم نسبي، يقوم على تغليب رؤية على الأخريات، فهو سلوك سياسي لأنه أخذ بعداً معيناً يمت بصلة إلى علاقة الإنسان بالسلطة السياسية على مختلف درجاتها، وهذا البعد هو الأكثر وضوحاً وتميزاً بين الأبعاد الأخرى، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والنفسية. والسلوك السياسي قد يكون سببه اقتصادياً أو اجتماعياً أو حتى نفسياً. وأولى الإسلام سلوك الإنسان اهتماماً خاصاً، فجعل «الدين المعاملة»، وحرص على تغطية جوانب السلوك الإنساني كافة تجاه الآخرين، بدءاً بعلاقة الفرد مع ربه حتى علاقته مع نفسه، ماراً بعلاقته مع والديه وزوجته وأبنائه وأقربائه وذوي رحمه وجيرانه وأصدقائه ومجتمعه. وهو بكل هذا يسعى إلى خلق الإنسان الأصلح، الذي يكون «كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الصلاح، صدوق اللسان، قليل الكلام، كثير العمل، قليل الزلل، قليل الفضول، براً وصولاً، وقوراً، صبوراً، شكوراً، رضياً حليماً، وفياً عفيفاً، لا لعاناً ولا سباباً ولا نماماً ولا مغتاباً، ولا عجولاً ولا حقوداً، ولا بخيلاً ولا حسوداً، باشاً هاشاً، يحب في الله ويبغض في الله»، وذلك وفق ما ذكره أبو بكر الجزائري في كتابه «منهاج المسلم». والعبادات التي فرضها الإسلام ترمي في جانب كبير منها إلى تهذيب السلوك، بجعلها تتفق مع ما يليق بجلال الله وسر وجوده وتنزيهه عن الأشباه، وتلتئم مع المعروف عند العقول السليمة. فمثلاً نجد أن الصلاة بكل حركاتها تصدر من الشعور بالسلطان الإلهي فتخلق التواضع والتضرع والسعي الدائم ثم النهي عن الفحشاء والمنكر من السلوك، والصوم، حرمان يعظم به أمر الله النفس، وتعرف به مقادير الهمم عند فقدها، ومكان الإحساس الإلهي في التفضل بها، وهو بذلك يثير روح المشاركة بين الغني والفقير والقوى والضعيف، ما يخلق «الانسجام السلوكي» النابع من وحدة الإحساس، والحج، تذكير للإنسان بأوليات حاجاته، وتعهد له بتمثيل المساواة بين الإنسان وغيره، ولو مرة في العمر، ورفع الامتياز بين الناس، وينجم عن ذلك «التهذيب السلوكي»، النابع من الشعور بالتقارب ووحدة الأصل والمصير. واستفاض الفقهاء والشراح والمفسرون وكتاب الآداب السلطانية، قديماً وحديثاً، في تناول «السلوك السياسي»، فانطلقوا من أن الحاكم بمثابة الرأس من الجسد، إذا صلح صلح الجسد وإذا فسد فسد الجسد، ولذا فعليه الدور الأكبر في تقويم الناس، ومن هنا أعطوا الحاكم سلطة التغيير والتبديل وجعلوه فوق الجميع. وعني فقهاء آخرون بتهذيب السلطة، فركزوا على أنه «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، وطالبوا الحاكم بأن يكون قدوة خيرة نيرة سليمة لرعيته، وأن يتصرف على أنه من جنس الناس، إذا جاعوا جاع، ولا يشبع إلا إذا شبعوا، وأن يكون مترفعاً عن الدنايا، متواضعاً لكل أفراد شعبه، قوياً إذا عدل، غير مصر على ظلم أو بغي، وأن يكون عادلاً فلا يصدر عنه ظلم لأحد. «ومن يظلم منكم نذقه عذاباً كبيراً» (الفرقان:19). واهتم بعض الفقهاء بعدالة الحاكم، ورأوا أنها تشمل الأمانات (الولايات والأموال) وإقامة الأحكام (حدود الله وحقوق الناس). ومن حيث الولايات يجب على الحاكم أن يولي الأصلح من رعيته شؤون الناس، ولا يعدل عنه إلى غيره لأجل قرابة أو ولاء أو صداقة أو مرافقة في بلد أو مذهب أو طريقة أو جنس أو الرشوة أو لضغينة في قلبه على الأحق أو غير ذلك من الأسباب، وذلك استناداً إلى حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من ولي أمر المسلمين شيئاً، فولى رجلاً وهو يجد من هو أصلح للمسلمين منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين» (رواه الحاكم). ولذا على الحاكم أن يختار الأمثل فالأمثل، وأن يكون الأصلح في كل ولاية بحسبها، فالقوة لإدارة الحرب والأمانة لإدارة المال، «إن خير من استأجرت القوي الأمين» (القصص:26). والعلم والورع للقضاء بين الناس. وبالنسبة للأموال، فسلوك الحاكم فيها هو «العدل»، فليس له أن يقسمها حسب أهوائه، ولكن يعطي كل ذي حق حقه، فإذا أخذ «ولاة الأموال» وغيرهم من مال المسلمين بغير حق، فعلى الحاكم أن يستخرجه منهم. والعدل يعني مراعاة حق الفقير في مال الغني، وفي المال العام كذلك. ويربط فقهاء بين العدل في الأحكام وإقامة الحدود المقررة على من يخطئ من رعيته من دون أن يستثني أحداً «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»، فإقامة الحد ذاته عدل لأنها تحقق الأمان بين البشر، والعدل كذلك في حقوق الناس. والحاكم يجب أن يستشير من حوله من أهل «الحل والعقد» وأن يرجع إلى الأمة في الأمور الجسيمة، «وشاورهم في الأمر». «وأمرهم شورى بينهم». ولذا فالشورى واجبة وملزمة للحاكم. وهناك تراث طويل من الأفكار والممارسات، يركز عليها الفقهاء في حديثهم عن العدل، فها هو أبو بكر الصديق يقول في أول كلمة له بعد توليه أمر المسلمين، «أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم». وها هو الفاروق العادل عمر بن الخطاب يقول: «لو أن دابة عثرت في العراق لسئل عمر لماذا لم تمهد لها الطريق». وها هو علي بن أبي طالب يوبخ والي بيت المال الذي أعاد عقداً ثميناً لابنته تلبسه يوم العيد ثم ترده، ويعيب على القاضي الذي كناه ولم يفعل ذلك لخصمه اليهودي حين احتكما إليه. وها هو عمر بن عبدالعزيز يولي رجلاً يشد ثيابه ويقول له «اتق الله» حتى يظل مراقباً لله في كل سلوكه، ويصادر كل أموال أقربائه التي جمعوها بغير حق في حكم من كانوا قبله. وفي المقابل يتناول كثير من الفقهاء سلوك المحكومين، ويرون أنه يجب أن يقوم على «الرضا» إذا كان الحاكم يتقي الله في حكمه. ويجعل هؤلاء الفيصل في الرضا هو رجوع الحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. فإذا كان الحاكم يسير على هديهما وجبت طاعته، ويستندون في هذا إلى الآية القرآنية التي تقول: «يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلاً» (النساء: 59). لكن التحدي الرئيسي الذي واجه الفقهاء في هذه الناحية هو الإجابة عن السؤال الذي يقول: ماذا لو كان الحاكم ظالماً؟ وهنا يتصورون أن الاتفاق في الأصول وفي الغايات والمقاصد بين الحاكم والمحكوم إذا كان وارداً فإن الاتفاق في الفروع والمناهج والسبل يكاد يكون مستحيلاً، فهناك اختلاف في وجهة نظر الأفراد على القضايا التي تشغل حياتهم، لذا فيجب أن تكون هناك حرية تامة لأن يعتنق الإنسان السبيل الذي يراه شريطة أن يكون شرعياً. فإذا أهدر الحاكم شرع الله وعطل مصالح الناس لأجل نفسه ولمصلحة فئة معينة أو لإهمال وعدم تحرٍ وقصد، وجب الخروج عليه، في نظر فقهاء كثر. ويستند الفقهاء في هذا إلى حديث شريف رواه ابن عمر يقول: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة» (متفق عليه). ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: «لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق إطراء، أو ليضربن الله قلوب بعضكم ببعض ثم تدعون فلا يستجاب لكم». وهناك حديث ثالث يقول: «إن أفضل الجهاد كلمة حق أمام سلطان جائر». ويحتشد الفكر السياسي الإسلامي بمثل هذه الآراء المتعارضة. فالمعتزلة يرون أنه لا يحل لمسلم أن يخلي أئمة الضلالة وولاة الجور إذا وجد أعواناً وغلب على ظنه أنه يتمكن من منعهم من الجور. أما الأشاعرة فيرون أن الإمام إنما ينصب لإقامة الأحكام وهو في جميع ما يتولاه وكيل للأمة ونائب عنها وهي من ورائه في تسديده وتقويمه، وإذكاره وتنبيهه وأخذ الحق منه إذا وجب عليه، وخلعه والاستبدال به متى اقترف ما يوجب خلعه. وفي فترة النبوة والخلافة الراشدة كان حق المعارضة مكفولاً، فالحباب بن المنذر راجع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في المكان الذي اختاره للقتال في بدر، ونزل الرسول على رأيه قائلاً: «لقد أشرت بالرأي!». وعمر بن الخطاب عارض الرسول في أمر أسرى بدر، ونزل القرآن يؤيده، وعارض يوم الحديبية مرتين؛ الأولى، حين أراد الرسول أن يبعثه كسفير إلى قريش يبين لها هدف المسلمين من القدوم إلى مكة، فقال عمر: «يا رسول الله ليس لي بمكة أحد من بني كعب يغضب لي إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان، فإن عشيرته بها، ونزل الرسول على أمره، وعارض في بنود المعاهدة، وقال لرسول الله: «فيم نعطي الدنية في ديننا ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم»، ولكن حين نزل أمر السماء «إنا فتحنا لك فتحا مبينا» أيقن أنه كان مخطئاً، لكن الرسول لم يحاسبه. وعارض الأنصار الرسول في عام 5 هجرية أثناء غزوة الخندق حين أراد أن يعقد معاهدة بينه وبين غطفان وأهل نجد فيعطيهم ثلث ثمار المدينة كيما يتخلوا عن مؤازرة قريش فينفك الحصار، حيث خالفه سعد بن معاذ وسعد بن عبادة حين قام الرسول باستشارتهما، ونزل الرسول على رأيهما. وفي فترة الخلافة الراشدة ظل سعد دون أن يبايع أبو بكر وعمر حتى مات وهما لم يرغماه على ذلك، وعلي بن أبي طالب لم يبايع أبا بكر، إلا حين رأى خطر الردة، وحين عاد لم يكره على ذلك. وتعرضت هذه الممارسات التي تنتصر لحق المعارضة إلى من حاول التشكيك فيها، مستنداً إلى أحاديث منسوبة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، منها: «اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي، كأن رأسه زبيبة» و «عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك وأثرة عليك»، و «اسمعوا وأطيعوا، فإنهم عليهم ما حملوا، وعليكم ما حملتم» و «من أهان السلطان أهانه الله» و «من كره من أميره شيئاً فليصبر عليه، فإنه من خرج من السلطان شبراً مات ميتة جاهلية». لكن هناك من يربط بين ظهور هذه الأحاديث وبين سعي بعض الفقهاء إلى تعزيز شرعية بين أمية وبني العباس، وكذلك الخوف من منازعة ظلم وجور حاكم المسلمين في وقت تتعرض فيه دولة الإسلام لخطر خارجي يريد النيل من قوتها وانتهاك حرمتها. وهناك من حاول أن يفسر هذا الاختلاف والخلاف من زاوية موجبات وجود سلطة، فها هو ابن تيمية يقول: «يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين بل لا قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من الحاجة الى رأس حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم»، وقال: «لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم». ولهذا كان السلف الصالح كالفضيل بن عياض وأحمد بن حنبل، وغيرهما، يقولون، «لو كان لنا دعوة مستجابة لدعونا بها للسلطان»، وقيل ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة واحدة بلا سلطان». ولذا فإن «الحكم شيء يقتضيه العقل والشرع معاً». وإلا عمت الفوضى، وشاع الهرج والمرج وتقاتل الناس على كل شيء. ويرى أصحاب هذا الاتجاه أن الصبر على الحاكم، لا يعني الخنوع، إنما هو الصبر الذي ينطوي على شجاعة واحتمال ومواجهة ونضال للانتصار للحق، ومغالبة الظالمين، وعندها تتجاوز المعارضة السياسية حدود المشروعية والحق الإنساني إلى حيث تبلغ مرتبة «الضرورة الواجبة شرعاً»، ويصبح التقصير في أدائها أو النكوص عنها إثماً مجرماً يستحق العقاب. * كاتب مصري