قبل تزايد جنون العظمة عند الرئيس العراقي صدام حسين كان مهرجان المربد قبل ما لا يقل عن اثني عشر عاما , يستقطب أبرز وجوه الثقافة العربية في كل عام, وكان المبدعون شعراء ورسامين وكت ابا من العراقيين يختالون بجدارة بين أولئك, وهم شاهد حي على مدى تصاعد الحجم الثقافي للعراق.. وكان يشغل إدارات العمل الحكومي والسفارات العراقية إداريون ومثقفون وإعلاميون على مستوى حيوي وخلا ق لم تألفه الإدارات والسفارات العربية.. لكن هؤلاء كانوا هم أول أفواج ضحايا الرئيس.. لقد انقسموا حسب ما يقول التعبير العراقي إلى "وجبات" بعضها غاب الرصاص في جسده , وبعض آخر تلقفته كندا وأستراليا وبريطانيا والأردن كمهاجرين هاربين, وكان بين هؤلاء أبرز شاعرين عراقيين معاصرين آنذاك.. الجواهري والبياتي.. وقد نشأ أدب عراقي جديد يصح أن يسمى بأدب المهجر وهو ممتع للغاية ومتنوع.. تجلى فيه العذاب النفسي الذي عاشه المطاردون.. عذاب الهجرات المتلاحقة.. رصاص الحروب مرة إلى الشرق وأخرى إلى الجنوب.. عذاب الشك من أن يكون المرء خائنا وهو لا يدري, أو أنه مواطن دون أن يدري حيث يتوقف الأمر على تصنيف الرئيس.. الأمر الذي جعل صدام وقد انفض من حوله المثقفون العراقيون حيث من النادر أن يوجد شت ام عراقي لكن أصبح من السهل أن يوجد شتامون وبعبارات وقحة في مجتمعات عربية تعاني أوضاعا اقتصادية قلقة يتحدثون وهم غير عراقيين عن أم المعارك.. زعيم العروبة.. حلفاء الإمبريالية والصهيونية.. كلام كثير وكثير لا أهمية له ولا جدوى لكنه يجعل الرئيس ينتفش زهوا حيث يخيل له أن ذلك يحدث نتيجة ديمومته كنجم بطولي رغم معرفته جيدا أن تكلفة مرتبات أولئك تفوق كثيرا ما يتقاضاه الصحفيون العراقيون.. ويبدو لي أن الرئيس قد شعر بإلحاح ضرورة أن يكون له صوت ثقافي داخل العراق فكان أن تفتق ذهنه مثلما ورد في خبر نشرته جريدة الحياة منذ بضعة أيام عن تحسسه لموهبته كروائي يحتم عليه واجبه تجاه أجيال أم المعارك القادمين أن يكتب لهم عملا روائيا يروي قصص شعبه الذي يعيش دائما بين حربين ويخاف دائما من مطاردات الإعدام.. ليس هذا فحسب ولكنه عقد اجتماعا مع بعض الصحفيين المحليين وطلب منهم أن يتحولوا إلى كت اب رواية يغرسون عبر الأقاصيص بطولات الرئيس في نفوس الناشئين.. إن صدام في هذا التخريف الذي يتواصل به الإهدار وتسفيه العقل العربي يريد أن ينقل العدوان من ممارسة سياسية وعسكرية إلى تربية وطنية تعل م الناس كيف يكرهون وكيف يعتدون.. إنه يحلم أن يكون صدام محفوظ الروائي بعد أن مث ل دور القائد العسكري والقائد السياسي والسباح النشط وليس معروفا متى سيغني أيضا .