ماذا لو كانت حياة الإنسان الذهنية تتوالى من طفولته حتى عجز شيخوخته بالمقلوب, أي يبدأ في مستهل الشباب كامل النضج.. متوفر الحنكة والوعي.. ثم مع ضعف كل قدراته الجسدية يبدأ ضعف ذهنيته وبالتالي العودة الى طفولة لا تتألم مما ليست تعي ولا تكتئب حين تفجع بما كانت تقدس. الذي يحدث هو العكس وهو طبعا الأفضل بالنسبة لحياة الإنسان تجاه محيطه العائلي ومسؤولياته عن نفسه ومن حوله, لأن الله يزوده بتناهي قوة الإدراك في مرحلة تناهي قدرته الجسدية واكتمال متطلبات ما هو مسؤول عنه حتى يوشك في النهاية أن يتحول إلى طاقة عقل تعوزها قدرة جسد, وكلما تنامت قدرات العقل وطموحات النفس كلما شعر الإنسان بالانكسار أمام حقائق واقعه مثلما قال شيخ الشعراء.. وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام أمامي في حياتي الآن أمور ومسميات وأفكار وقضايا أشعر بأسف عميق جدا عندما أمضيت سنوات ما أحوجني الآن إلى توقد حماسها وهي عندي أكثر إكبارا وأهمية من واجبي نحو نفسي.. هذا الأمر يعمق عندي الشعور بأننا نحن أبناء ذلك الجيل وهم رجولة هذا العصر الذين عايشوا توقد سنوات مرحلة منتصف الخمسينات ومنتصف الستينات.. هم بشر لهم أهمية خاصة.. جيل ثمين جدا لأنه عايش تجارب نفسية واجتماعية ووطنية ليس من السهل أن تتكرر الآن.. بداية أجد أننا حينذاك رغم سكننا في بيوت الطين وتدفئتنا بجمر الحطب ومبيت الماعز معنا في بيت واحد ومن لم يكن فينا مصابا بعينيه فهو يتلوى من أمراض جهازه الهضمي ومع ذلك.. بكل ذلك الفقر.. كان يداخلنا استحياء حقيقي حين يصفنا الشماليون العرب بأننا نفطيون مدللون وأن سياستنا تتواءم مع سياسات الغرب.. هكذا.. فضائلنا كان يوحي لنا بأنها نقائص, ولم ندرك ذلك إلا الآن بعد تجاوز سن الخمسين حين رأيناهم يثقبون كل صلابة في الأرض بحثا عن نفط ويحاولون الحصول بشتى الطرق على اهتمام من الغرب.. كان كل شيء له سمة الفلسطيني يأخذ في نفوسنا قداسة لا يدانيها اهتمامنا بأفراد أهلنا أو تقديرنا لحاكمنا, والانتماء القومي عربيا كان يشرفنا أن نكون بعضا من رماد ناره, ولم نكن ندرك أنهم بذلك كانوا يخدمون أسماء معينة ومكاسب معينة على حساب ايقاظ انتماءات قومية أخرى, حيث قبل ذلك كان الأكراد والتركمان والأمازيغ وزنوج الجنوب السوداني عربا بقبول ثقافة الإسلام وعدالة حكم الأكثرية.. وقتها لم يكن الاختلاف طائفيا ودينيا موجودا الا بين العلماء المختصين الذين كانوا يوصمون بالتخلف والنكوص, ثم إذا بأرض العرب تنبجس عن صراعات العامة شيعة وسن ة موارنة أو أقباطا ومسلمين.. وتدنت الفتوى فأباح كل طامع أو جاهل قتل الآخر.. من هو الآخر.. على كل المستويات.. دينيا وثقافيا وسياسيا ومشروعية سلطة.. إن كل فرد.. أو كل جماعات.. قد سلك نفقا مظلما يتسلح فيه بالذكاء أو المال أو السلاح حين يركض بحثا عن ذلك الآخر الذي كنا نطارده وفيه ملامح غربية أو إسرائيلية أو تراثية عربية, نجده الآن ذات ذلك الآخر بفارق أنه أصبح يطاردنا وله ملامح عربية أو فلسطينية. ما أضخم حجم تلك الكوارث التي نشرت دروسها في الفضاء للناس.. إنها تفوق آلاف المرات حجم زلازل تركيا في خسائرها قبل أن تعيد ذلك الجيل الى مرحلة الانكسار عند إدراك بشاعة مسالك الخطأ.. حين تراهم أبناء ذلك الجيل الثمين.. وهم كثيرون فعليك أن تتأمل حياتهم بعناية.. إنها قصة زمن هام في حركة تاريخ يصعب أن تهمل.. ستجد بينهم من اكتفى بنعمة الادراك حتى ولو فرط بالكثير من خصوصيات معاناته وعلاقاته وهؤلاء أقلية راقية.. وستجد من ترك المواقع الأولى وشعر أن ما خسره فيها حالما لن يعوضه الا بالالتفاف على المال أو المركز, كما ستجد من أدرك ضعف قدراته الخاصة فاتجه الى حيل الثقافة أو الأكاديمية وهم الأخطر كي يجعل المال يأتي وكأنه يعتذر منه في الوصول متأخرا ويبدو وهو في دهاء المجادلة وكأنه يعتذر في قبوله.