ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    انقاذ طفله من انسداد كلي للشرايين الرؤية مع جلطة لطفلة في الأحساء    فيصل بن بندر يرعى حفل الزواج الجماعي الثامن بجمعية إنسان.. الأحد المقبل    المملكة واليمن تتفقان على تأسيس 3 شركات للطاقة والاتصالات والمعارض    اليوم العالمي للغة العربية يؤكد أهمية اللغة العربية في تشكيل الهوية والثقافة العربية    "الوعلان للتجارة" تفتتح في الرياض مركز "رينو" المتكامل لخدمات الصيانة العصرية    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    القبض على ثلاثة مقيمين لترويجهم مادتي الامفيتامين والميثامفيتامين المخدرتين بتبوك    نائب وزير الخارجية يفتتح القسم القنصلي بسفارة المملكة في السودان    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    تنفيذ حكم القتل بحق مواطنيْن بتهم الخيانة والانضمام لكيانات إرهابية    طقس بارد إلى شديد البرودة على معظم مناطق المملكة    أسمنت المنطقة الجنوبية توقع شراكة مع الهيئة الملكية وصلب ستيل لتعزيز التكامل الصناعي في جازان    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    "مجدٍ مباري" احتفاءً بمرور 200 عام على تأسيس الدولة السعودية الثانية    إقبال جماهيري كبير في اليوم الثالث من ملتقى القراءة الدولي    إصابة 14 شخصاً في تل أبيب جراء صاروخ أطلق من اليمن    «عكاظ» تنشر توصيات اجتماع النواب العموم العرب في نيوم    التعادل يسيطر على مباريات الجولة الأولى في «خليجي 26»    «الأرصاد»: طقس «الشمالية» 4 تحت الصفر.. وثلوج على «اللوز»    ضبط 20,159 وافداً مخالفاً وترحيل 9,461    مدرب البحرين: رينارد مختلف عن مانشيني    فتيات الشباب يتربعن على قمة التايكوندو    «كنوز السعودية».. رحلة ثقافية تعيد تعريف الهوية الإعلامية للمملكة    وفد «هارفارد» يستكشف «جدة التاريخية»    حوار ثقافي سعودي عراقي في المجال الموسيقي    رينارد: مواجهة البحرين صعبة.. وهدفنا الكأس الخليجية    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    200 فرصة في استثمر بالمدينة    «العالم الإسلامي»: ندين عملية الدهس في ألمانيا.. ونتضامن مع ذوي الضحايا    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    «يوتيوب» تكافح العناوين المضللة لمقاطع الفيديو    مدرب الكويت: عانينا من سوء الحظ    سمو ولي العهد يطمئن على صحة ملك المغرب    التعادل الإيجابي يحسم مواجهة الكويت وعُمان في افتتاح خليجي 26    السعودية أيقونة العطاء والتضامن الإنساني في العالم    الحربان العالميتان.. !    معرض وزارة الداخلية (واحة الأمن).. مسيرة أمن وازدهار وجودة حياة لكل الوطن    رحلة إبداعية    «موسم الدرعية».. احتفاء بالتاريخ والثقافة والفنون    رواية الحرب الخفيّة ضد السعوديين والسعودية    لمحات من حروب الإسلام    12 مليون زائر يشهدون أحداثاً استثنائية في «موسم الرياض»    رأس وفد المملكة في "ورشة العمل رفيعة المستوى".. وزير التجارة: تبنّى العالم المتزايد للرقمنة أحدث تحولاً في موثوقية التجارة    وزير الطاقة وثقافة الاعتذار للمستهلك    هل يجوز البيع بسعرين ؟!    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    وصول طلائع الدفعة الثانية من ضيوف الملك للمدينة المنورة    أمير القصيم يرعى انطلاق ملتقى المكتبات    محمد بن ناصر يفتتح شاطئ ملكية جازان    ضيوف خادم الحرمين يشيدون بعناية المملكة بكتاب الله طباعة ونشرًا وتعليمًا    المركز الوطني للعمليات الأمنية يواصل استقباله زوار معرض (واحة الأمن)    الأمر بالمعروف في جازان تفعِّل المعرض التوعوي "ولاء" بالكلية التقنية    شيخ شمل قبائل الحسيني والنجوع يهنى القيادة الرشيدة بمناسبة افتتاح كورنيش الهيئة الملكية في بيش    الأمير محمد بن ناصر يفتتح شاطئ الهيئة الملكية بمدينة جازان للصناعات الأساسية والتحويلية    السيسي: الاعتداءات تهدد وحدة وسيادة سورية    رئيس الوزراء العراقي يغادر العُلا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نظرية التلقائية تجيب عن إشكالات الفاعلية الحدسية
نشر في الرياض يوم 17 - 07 - 2011

إن الفاعلية الحدسية من أبرز تجليات التلقائية الإنسانية فهي في جانبها السلبي تجسِّد الذوبان التلقائي في السائد أيا كان اتجاهه ومحتواه ومستواه ففيه تنتظم الأكثرية الغالبة من الناس انتظاماً تلقائياً في كل المجتمعات أما الجانب الايجابي للفاعلية الحدسية فتجسده انبثاقات البصيرة الفردية الخلاقة الخارقة للسائد فهما جانبان متضادان، إن تلقائية الإنسان تُنيمه وتسلبه فرديته وتجعله قطرة ذائبة في تيار عام مندفع تلقائياً وبالمقابل فإن تلقائية انبثاقات البصيرة الريادية المضيئة هي المنبع المدهش لما هو عظيم ورائع في الإنسان وهنا تبرز المفارقة المربكة التي تجيب عليها نظرية التلقائية الإنسانية...
إن الإنسان كائن تلقائي فلا تكون المعلومات والحقائق جزءاً من ذاته ومؤثرة في تفكيره وموجهة لسلوكه حتى تمتزج في كيانه فتصير معرفة تلقائية تنساب منه انسياباً وبسبب ذلك بقيت نتائج التعليم الطويل هزيلة بل تكاد تكون معدومة في مجالات التفكير والسلوك وكل ما هو انسياب تلقائي من مخازن البرمجة التلقائية.
لذلك فإن مفهوم الحدْس من أهم المفاهيم التي ينبغي أن تشاع بين الجميع وأن تنال من الاهتمام والتحليل والفرز والتمييز ما يتناسب مع تأثيرها الشديد سلباً أو ايجاباً فالحدس يُعبَّر به عن واقعين متناقضين تمام التناقض فهو في وجهه المظلم يدل على الانسياب التلقائي لتفكير الفرد وسلوكه كقطرة من التيار العام السائد الذي يغلب عليه الجهل المركّب والوهم المسيطر والغبطة الساذجة والتلقائية الفجة والبرمجة المستحكمة، إن هذه السيطرة التلقائية الممتدة في الزمان والمكان للجهل المركّب تمثل معضلة إنسانية كبرى مزمنة ومستعصية لأنها سبقت إلى العقل البشري سبقاً كثيفاً وعميقاً وموغلاً، إن هذا السبق المطلق قد غمر الإنسانية في مختلف الأزمنة والأمكنة فتمكن من احتلال القابليات الإنسانية الفارغة المفتوحة فتحقق له بكل ذلك هذا الرسوخ التلقائي الشديد وهذه الهيمنة التلقائية الشاملة...
أما الحدس في وجهه المضيء فيدل على العكس من ذلك تماماً من حيث التكوين ومن حيث النتيجة إنه لا يتكوَّن تلقائياً ولكن فاعليته لا تتحقق حتى تبلغ التعبئة والمران والتفاعل درجة التشبُّع والامتلاء مع الاهتمام القوي والتوقد الشديد ليفيض الحدس الخارق تلقائياً إن الحدس المضيء هو ثمرة الجهد الفردي الموضوعي الواعي الكثيف المنظّم لكنه حدس فردي خارق يواجهه الواقع التلقائي السائد بالرفض الصارم فالحدوس الفردية تأتي قليلة ومشتتة إنها تشبه قطرات المطر العذبة حين تسقط على المحيط المالح أو هي مجرد ومضات متباعدة وسط الظلمة الحالكة لذلك تظل هذه الحدوس محدودة التأثير على نطاق التفكير العام والسلوك الاجتماعي والإنساني لكن هذه الحدوس الخارقة هي الشرط الضروري للتقدم الحضاري إن الحدس الفلسفي والعلمي والعملي والأدبي والفني بمستواه الفردي الخارق هو الإضاءة الكاشفة التي تميط الغشاوة وتزيل الجهالة وتنفذ إلى صميم الحقيقة وتُمسك بالحل الناجع لمعضلات مزمنة إن الحدس بمعناه الايجابي هو البصيرة النافذة بأروع التجليات وهو النضج الخارق بأعلى النماذج وهو الوميض الفجائي النادر والباهر لكنه وميض يقتصر في البداية على صاحبه ولا يمتد أثره إلا بعد تلكؤ عام شديد وممانعة عنيدة..
إن الواقع البشري في كل مكان يؤكد أنه بسبب الطبيعة التلقائية للإنسان والتأخر الشديد لظهور العلوم الممحصة وهيمنة الثقافات التلقائية قروناً طويلة وكون الإنسان يتبرمج بالأسبق إليه فإنه لا يوجد أي تكافؤ بين التيار الثقافي العام التلقائي وبين الحدوس الفردية الخارقة المغمورة وسط هذا التيار العارم ومن هنا بقي تأثير العلوم الحديثة ضئيلاً غاية الضآلة على الذهنيات والعواطف العامة والتقاليد والقيم والاهتمامات والثقافات المتوارثة فليس للعلوم تأثير واضح إلا في المجالات البحثية والمهنية والتنموية كقطاعات متمايزة مما أثمر هذا الانتاج العالمي الهائل وأدى إلى فتوحات وانجازات علمية وتقنية مذهلة لكنها تعمل على شكل قطاعات منفصلة ومتباعدة وكل قطاع يواصل التقدم بشكل باهر لكنه منفصل عن غيره ويعود تحقيق هذا التقدم المذهل في كل القطاعات إلى الالتزام بالمعارف المهنية الدقيقة والمهارات العالية المكتسبة والتنظيم العام الصارم وكلما صارت هذه القدرات المكتسبة تلقائية كانت أسهل أداء وأشد فاعلية..
إن الإنسان كائن تلقائي فلا تكون المعلومات والحقائق جزءاً من ذاته ومؤثرة في تفكيره وموجهة لسلوكه حتى تمتزج في كيانه فتصير معرفة تلقائية تنساب منه انسياباً وبسبب ذلك بقيت نتائج التعليم الطويل هزيلة بل تكاد تكون معدومة في مجالات التفكير والسلوك وكل ما هو انسياب تلقائي من مخازن البرمجة التلقائية لأن المعارف الممحصة لا تتحول إلى معرفة ذاتية تلقائية حتى تمر بعدد من المراحل وهي مراحل يندر أن تتحقق إلا لعدد محدود من الناس أما حفظ المعلومات وحده والنجاح المدرسي بواسطة هذا الحفظ فليس سوى المرحلة الأولى من مراحل عديدة لتحويل المعلومات إلى معرفة تلقائية وحتى بعد هذه العمليات الطويلة والعسيرة من التحويل تبقى تحت سيطرة البرمجة السابقة لها مما تشرَّبته القابليات تشرباً تلقائياً فخالط النفس وامتزج في الكيان وانبنى عليه العظم واللحم وجرى من الإنسان مجرى الدم وسرى فيه سريان الحياة فالذوات الإنسانية تتبرمج بالأسبق ولا يمكن تصحيح أو خلخلة هذا الأسبق إلا بما هو أقوى وليست قوة اللاحق بكونه يعتمد على حقائق بل بقدرته على التأثير العاطفي بشكل مزلزل لتنفتح البنية المعرفية السابقة وتسمح للأضواء بأن تُشع داخلها لتعيد تكوينها وبناءها وهذا لا يحصل إلا فردياً ونادراً..
إن المعضلة في الحدس في نوعيه: الجيد والرديء أنه نتاج ما تعبأت به القابليات الإنسانية أيا كان مضمون هذه التعبئة وبذلك تأتي النتائج في غاية التناقض فإما أن ينجلي الحدس عن نظرية خارقة أو فكرة ملهمة إذا كان مسبوقاً باهتمام علمي قوي مستغرق أو ينساب جهلاً مركباً ورؤى ساذجة وثقة تلقائية عمياء مما تبرمج به الناس تلقائياً من التصورات والأفكار والمسلّمات والعادات التي لم تخضع لأية مراجعة أو غربلة أو فحص أو تحليل ومن هنا جاءت المفارقة فالحدوس هي نتاج ما هو سابق لها تنساب أو تتدفق مما امتلأت به الذوات وليست منهجاً للوصول إلى هذا النتاج إن الحدس الساذج نتاج تعبئة تلقائية وجاهزية سابقة وهذا النوع هو العام السائد في كل المجتمعات وليس أفراد الجمهور سوى قطرات في تيار تلقائي عام أما الحدس الفردي الريادي الخارق فهو يأتي ثمرة لتعبئة علمية دقيقة منظمة مدفوعة ومصحوبة باهتمام تلقائي قوي مستغرق..
إن التعبير عن معنيين متناقضين في لفظ واحد هو أحد مظاهر القصور الملازم لكل اللغات فهذا القصور هو مصدر لالتباسات كثيرة مربكة فاللفظ (الحدس) يعبر عن الطريقة التي ينساب بها المحتوى تلقائياً وليس عن المحتوى ذاته فالعلوم تتطور والمفاهيم تولد والمصطلحات تستحدث والرؤى تتسع والتصورات تتنوع ولكن كل هذا يراد أن يعبَّر عنه بلغة قد استقرت بألفاظها الضيقة ومعانيها التي قد تكون متنافرة فيما بينها وتكون عاجزة عن استيعاب المفاهيم بأحمالها الطارئة فإذا طرأ معنى علمي أو فلسفي بعد اكتشافات خارقة أو تطورات كبيرة فإنه لابد من إنشاء مفهوم جديد للتعبير عن المحتوى الطارئ الكثيف المركب وفي هذه الحالة لا مناص من حشر المضمون المركب الجديد في لفظ قديم قد يكون شديد الضيق أو متنافر المعاني فيصاب المحتوى بالضمور أو يتشوَّه بما توحيه الاستعمالات القديمة المتنافرة فالأصل في أية لغة أنها تعبِّر عما يعرفه أهلها في زمن الوضع أو في مرحلة التكوين والتدوين فلا يمكن أن تحوي المفردات مضموناً ليس معروفاً من قبل وهذا يقتضي أن ينمو محتوى اللغة وأن يتسع مضمون المفردات بمقدار نمو المعارف ومكتشفات العلوم واتساع التصورات واستحداث المفاهيم وعلى سبيل المثال فإن (الحدْس) يُعد الآن من المفاهيم الأساسية في نظرية المعرفة وفي مناهج البحث وفي فلسفة ولكن من يعود إلى أي معجم لغوي لن يجد ما يتفق مع هذا المفهوم المعرفي الأساسي بل ان المنحى اللغوي يكون مضللاً لأنه يشير إلى معنى التخمين أو السير السريع على غير هدى أو الانطلاق العفوي دون استقامة ولغير قصد محدَّد...
إن لفظ الحدس في المعاجم اللغوية يأتي لمعان كثيرة ومتنوعة فهو يعطي معنى الحزر والتقدير وإخلاف التوقع وخيبة الظن وإطلاق الكلام على عواهنه كما يأتي بمعنى الدوس والوطء والرمي بسهم والإناخة والاضجاع والصرع والمغامرة ولكن الذي يعنينا هنا هو مضمونه الثقافي والفلسفي وفاعليته الحاسمة سلباً أو إيجاباً فهو في جانبه السلبي قد عطل العقل الإنساني وأفسد العواطف وعرقل تقدم الحضارة وأجج الحروب وأوقد العداوات وعمق أسباب التنافر بين الثقافات لكن هذا الطوفان من الحدوس التلقائية العامة الخانقة للعقل تخرج من داخله حدوس فردية خارقة ومضيئة فالحدس العلمي هو انبثاق مفاجئ لضوء العقل بعد الامتلاء والتشبع والاهتمام القوي المستغرق وبعد حمل طويل ومخاض عسير إنه الإشراق الباهر المباشر والانفجار القوي المباغت والتوجه الحاد الكاشف والسهم الذهني النافذ إنه الإشعاع الذي يخترق الحجب وينفذ إلى المجهول ويمسك بالحقيقة المراوغة ويعثر على الحل لمشكلة مستعصية.
إن هذه الفرادة الاستثنائية لانبثاقات الحدس العلمي قد جعلتها غير مفهومة عند الكثيرين فالذين لم يجربوا هذه الحالة الفردية ولم يمروا بها يصعب عليهم أن يتصوروها فالعقل الفردي مهما بلغ من الذكاء مرتهن بتجاربه وخبراته وما عاشه في واقع الحياة، لذلك يبادر الناس إلى نفي ما لم يعايشوه لأنه غريب عليهم وليس منطقياً بالنسبة لهم لذلك يواجه الباحثون معضلة التباينات الشديدة في مواقف الفلاسفة والعلماء من فاعلية الحدس العلمي وقيمة هذه الفاعلية..
إن الفاعلية الحدسية الإيجابية تؤكدها وقائع مقنعة يستحيل حصرها من مجالات جادة متنوعة كما أن فلاسفة عظماء وعلماء متميزون يؤكدون أن هذه الفاعلية الإيجابية هي منبع النظريات العظيمة ومصدر الأفكار الخلاقة لكن هذا لا ينفي أن الحدوس الساذجة التلقائية على مر التاريخ كانت مصادر متجددة للأوهام والتخرصات وما زالت بعض المجتمعات بل أغلب المجتمعات تتوارث الجهل المركب فتفيض حدوس الأفراد فيضاناً تلقائياً مما تبرمجوا به مما يستوجب الانتباه للفرق النوعي بين الحدس الناتج عن التفكير السائد والحدس الريادي الخارق فنظرية التلقائية الإنسانية تجيب عن هذا الإشكال وتكشف أسباب التناقض أنه بسبب تلقائية الإنسان فإنه على مر التاريخ كان الحدس التلقائي الساذج منبعاً لأسوأ الأوهام وأعقد الخرافات وأدوم الأساطير ولكل ما يكبل العقول ويشل التفكير ويعطل الفاعليات الذهنية ويزري بالمجتمعات البشرية ويعرقل خطوات العلم ويربك مسيرة الحضارة ولكن بالمقابل نجد أن التاريخ يؤكد بنفس القوة أن الحدوس الريادية الخارقة كانت الضوء الساطع الذي سار على هديه التقدم الحضاري الظافر. إن نظرية التلقائية الإنسانية تجيب بوضوح عن أسباب هذا التباين في الفاعلية الحدسية، فالإنسان كائن تلقائي وهو يفيض حدساً مما تبرمج به فإذا كان الفرد يعتمد على ما تشبعت به قابلياته تلقائياً دون فحص ولا تحليل ولا تمحيص فإن حدسه يكون في الغالب حدساً ساذجاً وخاطئاً وربما كان أسطورياً أو واهماً أو بعيداً عن مطابقة الحقائق أما إذا كان الفرد من ذوي التفكير النقدي الناضج والاهتمام القوي المستغرق وكان شغوفاً بالحقيقة ومتشبعاً بمعارف ممحصة ومستغرقاً في الاستقصاء حول إشكال معرفي أو علمي أو عملي فإن حدسه يفيض تلقائياً ضوءاً ساطعاً مما تشبع به، وهنا ينجلي سبب الإشكال فالعقل لا يفيض إلا بما تمت تعبئته به سواء كانت التعبئة بالحقائق أم كانت بالأوهام فالحدس نتاج وثمرة ونتائج وليس منهجاً فإذا جاء امتلاء القابليات طبيعياً تلقائياً فسوف تنساب منه حدوس ساذجة واهمة لا تمت بأية صلة إلى العلم لأن العلم غير تلقائي ولا تمتلئ به القابليات إلا بجهد منظم وقوي وموصول ومستغرق وأهم ما يجب تكرار التأكيد عليه هو أن الحدس نتاج وليس منهجاً فالقابليات لا تعطي إلا مما تعبأت به وبذلك يزول الإشكال.
إن الفاعلية الحدسية الخارقة قد حظيت بالتأكيد الشديد من قبل عظماء الفلاسفة وكبار العلماء إنهم يؤمنون بالفاعلية العظيمة للحدس المبني على البحث والعناية والتدقيق والاستقصاء والاهتمام القوي المستغرق، ومن أشهر المواقف الإيجابية من الحدس موقف مؤسس الفكر الحديث رينيه ديكارت الذي يؤكد أن الحدس هو: «التصور الذي يقوم في ذهن خالص منتبه بدرجة من السهولة والتميز لا يبقى معها مجال للريب أو هو التصور الذهني الذي يصدر عن نور العقل وحده» ويقول: «لا يملك الآدميون طرقاً أخرى لإدراك الحقيقة بصورة ثابتة ويقينية غير طريقة الحدس البديهي والاستنباط الضروري» وهو هنا يتحدث عن تجربة شخصية قاسية فلقد مرت به حالة من الشك الكلي المطلق فوقع في حيرة شديدة إلى درجة أنه شك في كل شيء حتى في وجوده ذاته فانبثق الحدس المنقذ من أعماقه ليبعد عنه هذا الشك المطلق وليقيم له برهاناً ساطعاً وقاطعاً على حقيقة وجوده ليس بطريقة المقدمات المنطقية وإنما بإشراق مباغت منبثق من الأعماق بتأثير حرارة الجهد وتفاعلات الاهتمام القوي المستغرق فقد اسعفه حدسه بحقيقة أنه ما دام أنه يشك ويقاوم هذا الشك فإن هذا برهان قاطع على وجوده، وقد مر الإمام الغزالي بتجربة مريرة مماثلة انتهت بمثل هذا الحدس الخارق الشافي.
ويؤكد الفيلسوف الفرنسي الحائز على جائزة نوبل هنري برجسون أن الحدس الخارق لا يتاح إلا لبعض الأفراد وحتى هؤلاء لا يملكونه إلا حين يكونون في حالة تشبع وامتلاء واتحاد مع الموضوع واستغراق في المجال الذي ينبثق عنه الحدس وهو يرى أن الحدس حالة استثنائية فريدة ممعنة في الخصوصية إلى درجة أنه يصعب التعبير عنها في كلمات وعن ذلك يقول برجسون: «الحدس هو ذلك التعاطف الذي ينقلنا إلى باطن الشيء ويجعلنا نتحد بصفاته الفريدة التي يتعذر التعبير عنها باللغة إنه شيء بسيط وبسيط جداً بل هو في غاية البساطة لدرجة أن الفيلسوف لم ينجح أبداً في صوغه» إن الألفاظ والتعابير قد نشأت وتكونت للتعبير عن احتياجات الإنسان وانفعالاته وأشيائه المعهودة فإذا أوغل المعنى في التجريد والخصوصية والاستثنائية صار من الصعب أن نجد الكلمات التي تستوعب أو تعبر عنه وحتى لو عبرنا عنه فسوف يكون صعباً على الآخرين فهمه إلا بجهد يتناسب مع شدة رهافته..
ويقول الفيلسوف الفرنسي جاك ماريتان «يقوم كل مذهب فلسفي على حدس رئيسي قد تساء مفهمته وقد يعبر عنه ضمن نسق ضعيف أو مغلوط من القضايا المثبتة أو المنفية إلا أنه بوصفه حدساً عقلياً يدرك إدراكاً حقيقياً جانباً من الواقع» فالحدس العلمي هو ثمرة النهايات القصوى لتوهج العقل وهو النتاج اليانع لتوقد الاهتمام وهو الفيضان التلقائي لفاعلية الامتلاء والتشبع بالحقائق وهو النتيجة الخارقة للاهتمام القوي المستغرق فالحدس هو ثمرة يانعة ونتيجة ثمينة لما كان مسبوقاً به فمثلما أن التوقد الوجداني والعشق والهيام عند الشاعر ينجلي عن قصيدة رائعة فكذلك الاهتمام القوي المستغرق ينحسر عن حدس علمي خارق أو ينجلي عن نظرية مضيئة مهمة..
وكما يقول الفيلسوف الألماني الشهير أدموند هوسرل: «لا يمكن أن نتصور أنه بمقدور أي نظرية أن تشككنا في مبدأ المبادئ الذي يقول: إن كل حدس يقدم لنا موضوعه بصورة مباشرة وأولية إنما هو مصدر معرفة مشروعة وإنه ينبغي قبول جميع المعطيات المباشرة للحدس على النحو الذي تقوم عليه ليس إلا» إنه يؤمن بحقيقة الفاعلية الحدسية ويؤكد أن الحدس هو الكشف بأوضح تجلياته وإنه المعروف بأصدق معانيها..
ويقول لويس دي برويليه وهو عالم فيزياء فرنسي له مكانة عالمية: «إن الشخص الذي يدرك بالحدس ولا يعبأ بالمنطق لا مناص له من السقوط في هراء مخيلة مختلة أما عالم المنطق فهو يقضي على نفسه بالبقاء في مدرسية عقيمة إن لم يكن في بعض أوقاته صاحب حدس» ويقول: «يا له من أمر عجب!! إن العلم الإنساني الذي هو علم عقلي في مبادئه ومناهجه لا يمكنه القيام بأبهر الاكتشافات إلا بقفزات فجائية خطيرة حيث تتدخل الملكات المتحررة التي نسميها الخيال والحدس والبصيرة من مستلزمات الاستدلال الصارم» وربما كان جان بول سارتر هو أشد الفلاسفة وضوحاً وتأكيداً وحسماً فهو يرى أن المعرفة الحدسية هي وحدها المعرفة الحقيقية فيؤكد بأنه: «لا وجود إلا للمعرفة الحدسية أما الاستنتاج والخطاب اللذان نسميهما على غير حق معرفة فهما ليسا أكثر من وسيلتين تقودان إلى الحدس وعندما نفوز بالحدس تندثر الوسائل التي استعملت لبلوغه أما إذا تعذر بلوغه فإنه يبقى الاستدلال والخطاب معلمين يشيران إلى حدس بعيد المأخذ» وهذا يؤكد نظرية التلقائية تأكيداً ليس فيه تردد ولا غموض ويقول جول هنري بوانكاريه وهو عالم رياضيات شهير وفيلسوف كبير: «يتوقع المحلل بضرب من الحدس قبل أن يقدم البرهان فالتوقع قبل البرهان» ثم يؤكد: «بأن كل الاكتشافات المهمة قد تحققت بهذه الصورة» فالحدس ينبثق أولاً ثم تبدأ عملية البرهنة واجراءات التحقق وتجارب الإثبات أو النفي...


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.